قديم 06-06-2024, 03:21 AM
المشاركة 133
جاروط
نجوم الغابة العربية
  • غير متواجد
Post
قطوف من مدارج السالكين
************

قَالَ: الثَّالِثُ يَعْنِي مِنْ مَرَاتِبِ الْيَقَظَةِ: الِانْتِبَاهُ لِمَعْرِفَةِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنَ الْأَيَّامِ، وَالتَّنَصُّلُ مِنْ تَضْيِيعِهَا، وَالنَّظَرُ إِلَى الظَّنِّ بِهَا لِتَدَارُكِ فَائِتِهِا، وَتَعْمِيرِ بَاقِيهَا.
يَعْنِي أَنَّهُ يَعْرِفُ مَا مَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَيَتَدَارَكُ مَا فَاتَهُ فِي بَقِيَّةِ عُمْرِهِ الَّتِي لَا ثَمَنَ لَهَا، وَيَبْخَلُ بِسَاعَاتِهِ بَلْ بِأَنْفَاسِهِ عَنْ ذَهَابِهَا ضَيَاعًا فِي غَيْرِ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْخُسْرَانِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ النَّاسِ، مَعَ تَفَاوُتِهِمْ فِي قَدْرِهِ، قِلَّةً وَكَثْرَةً، فَكُلُّ نَفَسٍ يَخْرُجُ فِي غَيْرِ مَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْرَةٌ عَلَى الْعَبْدِ فِي مَعَادِهِ، وَوَقْفَةٌ لَهُ فِي طَرِيقِ سَيْرِهِ، أَوْ نَكْسَةٌ إِنِ اسْتَمَرَّ، أَوْ حِجَابٌ إِنِ انْقَطَعَ بِهِ.
قَالَ: فَأَمَّا مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ فَإِنَّهَا تَصْفُو بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
بِنُورِ الْعَقْلِ، وَشَيْمٍ بِرَوْقِ الْمِنَّةِ، وَالِاعْتِبَارِ بِأَهْلِ الْبَلَاءِ.
يَعْنِي أَنَّ حَقِيقَةَ مُشَاهَدَةِ النِّعْمَةِ يَصْفُو بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، فَهِيَ النُّورُ الَّذِي أَوْجَبَ الْيَقَظَةَ، فَاسْتَنَارَ الْقَلْبُ بِهِ لِرُؤْيَةِ التَّنَبُّهِ، وَعَلَى حَسَبِهِ قُوَّةً وَضَعْفًا تَصْفُو لَهُ مُشَاهَدَةُ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَأْكَلِهِ وَمَلْبَسِهِ، وَعَافِيَةِ بَدَنِهِ، وَقِيَامِ وَجْهِهِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَيْسَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا النُّورِ الْبَتَّةَ، فَنِعْمَةُ اللَّهِ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَجَذْبِ عَبْدِهِ إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالتَّنَعُّمِ بِذِكْرِهِ، وَالتَّلَذُّذِ بِطَاعَتِهِ هُوَ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَهَذَا إِنَّمَا يُدْرَكُ بِنُورِ الْعَقْلِ، وَهِدَايَةِ التَّوْفِيقِ.
وَكَذَلِكَ شَيْمُهُ بِرَوْقِ مِنَنِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَمُطَالَعَتُهَا مِنْ خِلَالِ سُحُبِ الطَّبْعِ، وَظُلُمَاتِ النَّفْسِ، وَالنَّظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبَلَاءِ وَهُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ، وَالِابْتِدَاعِ فِي دِينِ اللَّهِ فَهَذَانَ الصِّنْفَانِ هُمْ أَهْلُ الْبَلَاءِ حَقًّا، فَإِذَا رَآهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي قَلْبِهِ، وَصَفَتْ لَهُ وَعَرَفَ قَدْرَهَا، فَالضِّدُّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ.
حَتَّى إِنَّ مِنْ تَمَامِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ رُؤْيَةَ أَهْلِ النَّارِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ.
🌹 يتبع 12

قديم 06-06-2024, 03:22 AM
المشاركة 134
جاروط
نجوم الغابة العربية
  • غير متواجد
Post
قطوف من مدارج السالكين
******************

قَالَ: وَأَمَّا مُطَالَعَةُ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
بِتَعْظِيمِ الْحَقِّ، وَمَعْرِفَةِ النَّفْسِ، وَتَصْدِيقِ الْوَعِيدِ.
يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَمُلَتْ عَظَمَةُ الْحَقِّ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ عَظُمَتْ عِنْدَهُ مُخَالَفَتُهُ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَظِيمِ لَيْسَتْ كَمُخَالَفَةِ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ وَحَقِيقَتَهَا، وَفَقْرَهَا الذَّاتِيَّ إِلَى مَوْلَاهَا الْحَقِّ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَنَفَسٍ، وَشِدَّةَ حَاجَتِهَا إِلَيْهِ، عَظُمَتْ عِنْدَهُ جِنَايَةُ الْمُخَالَفَةِ لِمَنْ هُوَ شَدِيدُ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَنَفَسٍ.
وَأَيْضًا فَإِذَا عَرَفَ حَقَارَتَهَا مَعَ عِظَمِ قَدْرِ مَنْ خَالَفَهُ عَظُمَتِ الْجِنَايَةُ عِنْدَهُ، فَشَمَّرَ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا، وَبِحَسَبِ تَصْدِيقِهِ بِالْوَعِيدِ وَيَقِينِهِ بِهِ، يَكُونُ تَشْمِيرُهُ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَلْحَقُ بِهِ.
وَمَدَارُ السَّعَادَةِ، وَقُطْبُ رَحَاهَا عَلَى التَّصْدِيقِ بِالْوَعِيدِ، فَإِذَا تَعَطَّلَ مِنْ قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ بِالْوَعِيدِ خَرِبَ خَرَابًا لَا يُرْجَى مَعَهُ فَلَاحٌ الْبَتَّةَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَنْفَعُ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ لِمَنْ صَدَّقَ بِالْوَعِيدِ، وَخَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالْإِنْذَارِ، وَالْمُنْتَفِعُونَ بِالْآيَاتِ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود: 103]
وَقَالَ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]
وَقَالَ: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]
وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ أَهْلَ النَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هُمُ الْمُصَدِّقُونَ بِالْوَعِيدِ، الْخَائِفُونَ مِنْهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] .
قَالَ: وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ مِنَ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا تَسْتَقِيمُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
سَمَاعُ الْعِلْمِ، وَإِجَابَةُ دَاعِي الْحُرْمَةِ، وَصُحْبَةُ الصَّالِحِينَ، وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ خَلْعُ الْعَادَاتِ.
يَعْنِي أَنَّ السَّالِكَ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَرَاتِبِ الْأَعْمَالِ، وَنَفَائِسِ الْكَسْبِ، تَكُونُ مَعْرِفَتُهُ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي حَالِهِ وَإِيمَانِهِ، وَكَذَلِكَ تَفَقُّدُ إِجَابَةِ دَاعِي تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ مِنْ قَلْبِهِ هَلْ هُوَ سَرِيعُ الْإِجَابَةِ لَهَا، أَمْ هُوَ بَطِيءٌ عَنْهَا؟
فَبِحَسَبِ إِجَابَةِ الدَّاعِي سُرْعَةً وَإِبْطَاءً تَكُونُ زِيَادَتُهُ وَنُقْصَانُهُ.
وَكَذَلِكَ صُحْبَةُ أَرْبَابِ الْعَزَائِمِ، وَالْمُشَمِّرِينَ إِلَى اللَّحَاقِ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى يَعْرِفُ بِهِ مَا مَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ.
وَالَّذِي يَمْلِكُ بِهِ ذَلِكَ كُلَّهُ خُرُوجُهُ عَنِ الْعَادَاتِ وَالْمَأْلُوفَاتِ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى مُفَارَقَتِهَا، وَالْغُرْبَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ، وَمَا عَلَى الْعَبْدِ أَضَرُّ مِنْ مِلْكِ الْعَادَاتِ لَهُ، وَمَا عَارَضَ الْكُفَّارُ الرُّسُلَ إِلَّا بِالْعَادَاتِ الْمُسْتَقِرَّةِ، الْمَوْرُوثَةِ لَهُمْ عَنِ الْأَسْلَافِ الْمَاضِينَ، فَمَنْ لَمْ يُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى مُفَارَقَتِهَا وَالْخُرُوجِ عَنْهَا، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْمَطْلُوبِ مِنْهُ، فَهُوَ مَقْطُوعٌ، وَعَنْ فَلَاحِهِ وَفَوْزِهِ مَمْنُوعٌ: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] .

قديم 06-20-2024, 05:22 PM
المشاركة 135
جاروط
نجوم الغابة العربية
  • غير متواجد
Post
[COLOR=rgb(65, 168, 95)]قطوف من مدارج السالكين
*************×****

[فَصْلٌ الْفِكْرَةُ]

فَإِذَا اسْتَحْكَمَتْ يَقَظَتُهُ أَوْجَبَتْ لَهُ الْفِكْرَةَ، وَهِيَ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْدِيقُ الْقَلْبِ إِلَى جِهَةِ الْمَطْلُوبِ الْتِمَاسًا لَهُ.
وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ جَعَلَهَا بَعْدَ الْبَصِيرَةِ وَقَالَ فِي حَدِّهَا:
هِيَ تَلَمُّسُ الْبَصِيرَةِ لِاسْتِدْرَاكِ الْبُغْيَةِ، أَيِ الْتِمَاسُ الْعَقْلِ الْمَطْلُوبِ بِالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
فِكْرَةٌ فِي عَيْنِ التَّوْحِيدِ.
وَفِكْرَةٌ فِي لَطَائِفِ الصَّنْعَةِ.
وَفِكْرَةٌ فِي مَعَانِي الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ.
قُلْتُ: الْفِكْرَةُ فِكْرَتَانِ:
فِكْرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ.
وَفِكْرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ.
فَالَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فِكْرَةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالثَّابِتِ وَالْمَنْفِيِّ، وَالَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ هِيَ الْفِكْرَةُ الَّتِي تُمَيِّزُ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ.
ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِكْرَةٌ أُخْرَى فِي الطَّرِيقِ إِلَى حُصُولِ مَا يَنْفَعُ، فَيَسْلُكُهَا، وَالطَّرِيقِ إِلَى مَا يَضُرُّ فَيَتْرُكُهَا.
فَهَذِهِ سِتَّةُ أَقْسَامٍ لَا سَابِعَ لَهَا، هِيَ مَجَالُ أَفْكَارِ الْعُقَلَاءِ.
فَالْفِكْرَةُ فِي التَّوْحِيدِ اسْتِحْضَارُ أَدِلَّتِهِ، وَشَوَاهِدِ الدِّلَالَةِ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَاسْتِحَالَتِهِ، وَأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُهَا لِاثْنَيْنِ، كَمَا يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ الرُّبُوبِيَّةِ لِاثْنَيْنِ فَكَذَلِكَ مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ عِبَادَةُ اثْنَيْنِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اثْنَيْنِ، بَلْ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلْإِلَهِ الْحَقِّ، وَالرَّبِّ الْحَقِّ، وَهُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.
وَقَدْ خَبَطَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَجَاءَ بِمَا يَرْغَبُ عَنْهُ الْكُمَّلُ مِنْ سَادَاتِ السَّالِكِينَ وَالْوَاصِلِينَ إِلَى اللَّهِ.
فَقَالَ: الْفِكْرَةُ فِي عَيْنِ التَّوْحِيدِ اقْتِحَامُ بَحْرِ الْجُحُودِ.
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي أَصَّلَهُ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ كِتَابُهُ فِي أَمْرِ الْفَنَاءِ، فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى أَنَّ الْفِكْرَةَ فِي عَيْنِ التَّوْحِيدِ تُبْعِدُ الْعَبْدَ مِنَ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُ، لِأَنَّ التَّوْحِيدَ الصَّحِيحَ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ فَنَاءِ الْفِكْرَةِ وَالتَّفَكُّرِ، وَالْفِكْرَةُ تَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ رَسْمٍ لِاسْتِلْزَامِهَا مُفَكِّرًا، وَفِعْلًا قَائِمًا بِهِ، وَالتَّوْحِيدُ التَّامُّ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ رَسْمٍ أَصْلًا، كَانَتِ الْفِكْرَةُ عِنْدَهُ عَلَامَةَ الْجُحُودِ، وَاقْتِحَامًا لِبَحْرِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي أَبْيَاتِهِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ:
مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ
إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ

تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ
عَارِيَّةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ

تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ
وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ

وَمَعْنَى أَبْيَاتِهِ:
مَا وَحَدَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدٌ حَقَّ تَوْحِيدِهِ الْخَاصِّ، الَّذِي تُنْفَى فِيهِ الرُّسُومُ، وَيَضْمَحِلُّ فِيهِ كُلُّ حَادِثٍ، وَيَتَلَاشَى فِيهِ كُلُّ مُكَوَّنٍ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِبَقَاءِ الرَّسْمِ، وَهُوَ الْمُوَحِّدُ، وَتَوْحِيدُهُ الْقَائِمُ بِهِ، فَإِذَا وَحَّدَهُ شَهِدَ فِعْلَهُ الْحَادِثَ وَرَسْمَهُ الْحَادِثَ، وَذَلِكَ جُحُودٌ لِحَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، الَّذِي تُنْفَى فِيهِ الرُّسُومُ، وَتَتَلَاشَى فِيهِ الْأَكْوَانُ، فَلِذَلِكَ قَالَ: إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدٌ، هَذَا أَحْسُنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ، وَقَدْ فَسَّرَهُ أَهْلُ الْوَحْدَةِ بِصَرِيحِ كَلَامِهِمْ فِي مَذْهَبِهِمْ.
قَالُوا: مَعْنَى " كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدٌ " أَيْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ فَقَدْ وَصَفَ الْمُوَحَّدَ بِصِفَةٍ تَتَضَمَّنُ جَحْدَ حَقِّهِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ انْحِصَارِهِ تَحْتَ الْأَوْصَافِ، فَمَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ جَحَدَ إِطْلَاقَهُ عَنْ قُيُودِ الصِّفَاتِ.
وَقَوْلُهُ " تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ " أَيْ تَوْحِيدُ الْمُحْدِثِ لَهُ النَّاطِقِ عَنْ نَعْتِهِ، عَارِيَّةٌ مُسْتَرَدَّةٌ، فَإِنَّهُ الْمُوَحَّدُ قَبْلَ تَوْحِيدِ هَذَا النَّاطِقِ، وَبَعْدَ فَنَائِهِ، فَتَوْحِيدُهُ لَهُ عَارِيَّةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ الْحَقُّ بِإِفْنَائِهِ كُلَّ مَا سِوَاهُ.
وَالِاتِّحَادِيُّ يَقُولُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُوَحَّدَ وَاحِدٌ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَأَبْطَلَ بِبَسَاطَةِ ذَاتِهِ تَرْكِيبَ نُطْقِ وَاصِفِهِ، وَأَبْطَلَ بِإِطْلَاقِهِ تَقْيِيدَ نَعْتِ مُوَحِّدِهِ.
وَقَوْلُهُ " تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ " يَعْنِي أَنَّ تَوْحِيدَهُ الْحَقِيقِيَّ هُوَ تَوْحِيدُهُ لِنَفْسِهِ، حَيْثُ لَا هُنَاكَ رَسْمٌ وَلَا مُكَوَّنٌ، فَمَا وَحَدَّ اللَّهَ حَقِيقَةً إِلَّا اللَّهُ.
وَالِاتِّحَادِيُّ يَقُولُ: مَا ثَمَّ غَيْرٌ يُوَحِّدُهُ، بَلْ هُوَ الْمُوَحِّدُ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، إِذْ لَيْسَ ثَمَّ سِوًى فِي الْحَقِيقَةِ.
قَوْلُهُ " وَنَعَتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدٌ " أَيْ نَعْتُ النَّاعِتِ لَهُ مَيْلٌ وَخُرُوجٌ عَنِ التَّوْحِيدِ الْحَقِيقِيِّ، وَالْإِلْحَادُ أَصْلُهُ الْمَيْلُ، لِأَنَّهُ بِنَعْتِهِ لَهُ قَائِمٌ بِالرُّسُومِ، وَبَقَاءُ الرُّسُومِ يُنَافِي تَوْحِيدَهُ الْحَقِيقِيَّ.
وَالِاتِّحَادِيُّ يَقُولُ: نَعْتُ النَّاعِتِ لَهُ شِرْكٌ، لِأَنَّهُ أَسْنَدَ إِلَى الْمُطْلَقِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ إِسْنَادُهُ مِنَ التَّقْيِيدِ، وَذَلِكَ شِرْكٌ وَإِلْحَادٌ.
فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي إِسْمَاعِيلَ، فَتَحَ لِلزَّنَادِقَةِ بَابَ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، فَدَخَلُوا مِنْهُ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: إِنَّهُ لَمِنْهُمْ، وَمَا هُوَ مِنْهُمْ، وَغَرَّهُ سَرَابُ الْفَنَاءِ، فَظَنَّ أَنَّهُ لُجَّةُ بَحْرِ الْمَعْرِفَةِ، وَغَايَةُ الْعَارِفِينَ، وَبَالَغَ فِي تَحْقِيقِهِ وَإِثْبَاتِهِ، فَقَادَهُ قَسْرًا إِلَى مَا تَرَى.[/COLOR]



أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع



الساعة الآن 09:16 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2019, Jelsoft Enterprises Ltd.