الموضوع
:
تفسير سورة الملك
عرض مشاركة واحدة
09-11-2023, 10:56 PM
المشاركة
4
مُخْتَلِفَةٌ
Junior Member
تاريخ التسجيل :
Oct 2022
رقم العضوية :
588
المشاركات:
184
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}
وهذا أيضًا من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم، بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره وهو مع هذا يحلم ويصفح، ويؤجل ولا يعجل، كما قال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45].
وقال هاهنا: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أي: تذهب وتجيء وتضطرب، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أي: ريحا فيها حصباء تدمغكم، كما قال: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا} [الإسراء: 68].
وهكذا توعدهم هاهنا بقوله: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي: كيف يكون إنذاري وعاقبة من تخلف عنه وكذب به.
ثم قال: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: من الأمم السالفة والقرون الخالية، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟ أي: عظيمًا شديدًا أليمًا.
ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} أي: تارة يصففن أجنحتهن في الهواء، وتارة تجمع جناحًا وتنشر جناحًا {مَا يُمْسِكُهُنَّ} أي: في الجو {إِلا الرَّحْمَنُ} أي: بما سخر لهن من الهواء، من رحمته ولطفه، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} أي: بما يصلح كل شيء من مخلوقاته. وهذه كقوله: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 79].
{أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)}
يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا غيره، يبتغون عندهم نصرًا ورزقًا، مُنكرًا عليهم فيما اعتقدوه، ومُخبرا لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه، فقال: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} أي: ليس لكم من دونه من ولي ولا واق، ولا ناصر لكم غيره؛ ولهذا قال: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ}
ثم قال: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}؟! أي: من هذا الذي إذا قطع الله رزقه عنكم يرزقكم بعده؟! أي: لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق، وينصر إلا الله، عز وجل، وحده لا شريك له، أي: وهم يعلمون ذلك، ومع هذا يعبدون غيره؛ ولهذا قال: {بَلْ لَجُّوا} أي: استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم {فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي: في معاندة واستكبارًا ونفورًا على أدبارهم عن الحق، أي لا يسمعون له ولا يتبعونه.
ثم قال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؟: وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مُكبّا على وجهه، أي: يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه، أي: لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب؟ بل تائه حائر ضال، أهذا أهدى {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} أي: منتصب القامة {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: على طريق واضح بين، وهو في نفسه مستقيم، وطريقه مستقيمة. هذا مثلهم في الدنيا، وكذلك يكونون في الآخرة. فالمؤمن يحشر يمشي سويًا على صراط مستقيم، مُفض به إلى الجنة الفيحاء، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم، {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}
قال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا ابن نُمَير، حدثنا إسماعيل، عن نُفَيع قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قيل: يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال: «أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرًا على أن يمشيهم على وجوههم».
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق يونس بن محمد، عن شيبان، عن قتادة، عن أنس، به نحوه.
وقوله: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} أي: ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ} أي: العقول والإدراك، {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أي: ما أقل تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم، في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره.
{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ} أي: بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها، مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم، وحلاكم وأشكالكم وصوركم، {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: تجمعون بعد هذا التفرق والشتات، يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم.
ثم قال مخبرًا عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: متى يقع هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق؟ {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله، عز وجل، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} وإنما علي البلاغ، وقد أديته إليكم.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: لما قامت القيامة وشاهدها الكفار، ورأوا أن الأمر كان قريبا؛ لأن كل ما هو آتٍ آتٍ وإن طال زمنه، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك، لما يعلمون ما لهم هناك من الشر، أي: فأحاط بهم ذلك، وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر: 47، 48]؛ ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي: تستعجلون.
يتبع >>
رد مع اقتباس