![]() |
[COLOR=rgb(147, 101, 184)]قطوف من مدارج السالكين
******************* وَتَقْدِيمُ " الْعِبَادَةِ " عَلَى " الِاسْتِعَانَةِ " فِي الْفَاتِحَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْغَايَاتِ عَلَى الْوَسَائِلِ، إِذِ " الْعِبَادَةُ " غَايَةُ الْعِبَادِ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا، وَ " الِاسْتِعَانَةُ " وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " مُتَعَلِّقٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَاسْمِهِ " اللَّهِ " " {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاسْمِهِ " الرَّبِّ " فَقَدَّمَ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " عَلَى " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " كَمَا قَدَّمَ اسْمَ " اللَّهِ " عَلَى " الرَّبِّ " فِي أَوَّلِ الْسُورَةِ، وَلِأَنَّ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " قَسْمُ " الرَّبِّ "، فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ، الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهِ، وَ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " قَسْمُ الْعَبْدِ، فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الَّذِي لَهُ، وَهُوَ " {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] " إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " الْمُطْلَقَةَ تَتَضَمَّنُ " الِاسْتِعَانَةُ " مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَكُلُّ عَابِدٍ لِلَّهِ عُبُودِيَّةً تَامَّةً مُسْتَعِينٌ بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَغْرَاضِ وَالشَّهَوَاتِ قَدْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى شَهَوَاتِهِ، فَكَانَتِ الْعِبَادَةُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، وَلِهَذَا كَانَتْ قَسْمَ الرَّبِّ. وَلِأَنَّ " الِاسْتِعَانَةَ " جُزْءٌ مِنِ " الْعِبَادَةِ " مِنْ غَيْرٍ عَكْسٍ، وَلِأَنَّ " الِاسْتِعَانَةَ " طَلَبٌ مِنْهُ، وَ " الْعِبَادَةَ " طَلَبٌ لَهُ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ مُخْلِصٍ، وَ " الِاسْتِعَانَةَ " تَكُونُ مِنْ مُخْلِصٍ وَمِنْ غَيْرِ مُخْلِصٍ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " حَقُّهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ، وَ " الِاسْتِعَانَةُ " طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى " الْعِبَادَةِ "، وَهُوَ بَيَانُ صَدَقَتِهِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكَ، وَأَدَاءُ حَقِّهِ أَهَمُّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِصَدَقَتِهِ. وَلِأَنَّ " الْعِبَادَةَ " شُكْرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَشْكُرَ، وَالْإِعَانَةُ فِعْلُهُ بِكَ وَتَوْفِيقُهُ لَكَ، فَإِذَا الْتَزَمْتَ عُبُودِيَّتَهُ، وَدَخَلْتَ تَحْتَ رِقِّهَا أَعَانَكَ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْتِزَامُهَا وَالدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّهَا سَبَبًا لِنَيْلِ الْإِعَانَةِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَتَمَّ عُبُودِيَّةً كَانَتِ الْإِعَانَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُ أَعْظَمَ. وَالْعُبُودِيَّةُ مَحْفُوفَةٌ بِإِعَانَتَيْنِ: إِعَانَةٍ قَبْلَهَا عَلَى الْتِزَامِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا، وَإِعَانَةٍ بَعْدَهَا عَلَى عُبُودِيَّةٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا أَبَدًا، حَتَّى يَقْضِيَ الْعَبْدُ نَحْبَهُ. وَلِأَنَّ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " لَهُ، وَ " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " بِهِ، وَمَا لَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا بِهِ، لِأَنَّ مَا لَهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَمَا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِمَحَبَّتِهِ أَكْمَلُ مِمَّا تَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ مَشِيئَتِهِ، فَإِنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْكُفَّارُ، وَالطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي، وَالْمُتَعَلِّقُ بِمَحَبَّتِهِ: طَاعَتُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ، فَالْكُفَّارُ أَهْلُ مَشِيئَتِهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ أَهْلُ مَحَبَّتِهِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَقِرُّ فِي النَّارِ شَيْءٌ لِلَّهِ أَبَدًا، وَكُلُّ مَا فِيهَا فَإِنَّهُ بِهِ تَعَالَى وَبِمَشِيئَتِهِ. فَهَذِهِ الْأَسْرَارُ يَتَبَيَّنُ بِهَا حِكْمَةُ تَقْدِيمِ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " عَلَى " إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ". وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَعْبُودِ وَالْمُسْتَعَانِ عَلَى الْفِعْلَيْنِ، فَفِيهِ: أَدَبُهُمْ مَعَ اللَّهِ بِتَقْدِيمِ اسْمِهِ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَفِيهِ الِاهْتِمَامُ وَشِدَّةُ الْعِنَايَةِ بِهِ، وَفِيهِ الْإِيذَانُ بِالِاخْتِصَاصِ، الْمُسَمَّى بِالْحَصْرِ، فَهُوَ فِي قُوَّةٍ: لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ إِلَّا بِكَ، وَالْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ ذَوْقُ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفِقْهُ فِيهَا، وَاسْتِقْرَاءُ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ مُقَدَّمًا، وَسِيبَوَيْهِ نَصَّ عَلَى الِاهْتِمَامِ، وَلَمْ يَنْفِ غَيْرَهُ. وَلِأَنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ الْقَائِلِ أَنْ يُعْتِقَ عَشَرَةَ أَعْبُدٍ مَثَلًا، ثُمَّ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: إِيَّاكَ أَعْتَقْتُ، وَمَنْ سَمِعَهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَغَيْرَهُ أَيْضًا أَعْتَقْتَ، وَلَوْلَا فَهْمُ الِاخْتِصَاصِ لَمَا قُبِّحَ هَذَا الْكَلَامُ، وَلَا حَسُنَ إِنْكَارُهُ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]. {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] كَيْفَ تَجِدُهُ فِي قُوَّةِ: لَا تَرْهَبُوا غَيْرِي، وَلَا تَتَّقُوا سِوَايَ، وَكَذَلِكَ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " هُوَ فِي قُوَّةِ: لَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ، وَلَا نَسْتَعِينُ بِسِوَاكَ، وَكُلُّ ذِي ذَوْقٍ سَلِيمٍ يَفْهَمُ هَذَا الِاخْتِصَاصَ مِنْ عِلَّةِ السِّيَاقِ. وَلَا عِبْرَةَ بِجَدَلِ مَنْ قَلَّ فَهْمُهُ، وَفُتِحَ عَلَيْهِ بَابُ الشَّكِّ وَالتَّشْكِيكِ، فَهَؤُلَاءِ هُمْ آفَةُ الْعُلُومِ، وَبَلِيَّةُ الْأَذْهَانِ وَالْفُهُومِ، مَعَ أَنَّ فِي ضَمِيرِ " إِيَّاكَ " مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى نَفْسِ الذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ مَا لَيْسَ فِي الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، فَفِي: إِيَّاكَ قَصَدْتُ وَأَحْبَبْتُ مِنَ الدِّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى حَقِيقَتِكَ وَذَاتِكَ قَصْدِي، مَا لَيْسَ فِي قَوْلِكَ: قَصَدْتُكَ وَأَحْبَبْتُكَ، وَإِيَّاكَ أَعْنِي فِيهِ مَعْنَى: نَفْسَكَ وَذَاتَكَ وَحَقِيقَتَكَ أَعْنِي. وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ النُّحَاةِ: إِنَّ " إِيَّا " اسْمٌ ظَاهِرٌ مُضَافٌ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ، وَلَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ بِرَدٍّ شَافٍ. وَلَوْلَا أَنَّا فِي شَأْنٍ وَرَاءَ هَذَا لَأَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَكَرْنَا مَذَاهِبَ النُّحَاةِ فِيهَا، وَنَصَرْنَا الرَّاجِحَ، وَلَعَلَّنَا أَنْ نَعْطِفَ عَلَى ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّهِ. وَفِي إِعَادَةِ " إِيَّاكَ " مَرَّةً أُخْرَى دَلَالَةٌ عَلَى تَعَلُّقِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، فَفِي إِعَادَةِ الضَّمِيرِ مِنْ قُوَّةِ الِاقْتِضَاءِ لِذَلِكَ مَا لَيْسَ فِي حَذْفِهِ، فَإِذَا قُلْتَ لِمَلِكٍ مَثَلًا: إِيَّاكَ أُحِبُّ، وَإِيَّاكَ أَخَافُ، كَانَ فِيهِ مِنَ اخْتِصَاصِ الْحُبِّ وَالْخَوْفِ بِذَاتِهِ وَالِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ، مَا لَيْسَ فِي قَوْلِكِ: إِيَّاكَ أُحِبُّ وَأَخَافُ.[/COLOR] |
[COLOR=rgb(65, 168, 95)]
قطوف من مدارج السالكين ******************** فَصْلٌ أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالنَّاسُ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَهُمَا الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَجَلُّهَا وَأَفْضَلُهَا: أَهْلُ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالَلَّهِ عَلَيْهَا، فَعِبَادَةُ اللَّهِ غَايَةُ مُرَادِهِمْ، وَطَلَبُهُمْ مِنْهُ أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَيْهَا، وَيُوَفِّقَهُمْ لِلْقِيَامِ بِهَا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ مَا يُسْأَلُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْإِعَانَةُ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِبِّهِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَلَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» . فَأَنْفَعُ الدُّعَاءِ طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَأَفْضَلُ الْمَوَاهِبِ إِسْعَافُهُ بِهَذَا الْمَطْلُوبِ، وَجَمِيعُ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ مَدَارُهَا عَلَى هَذَا، وَعَلَى دَفْعِ مَا يُضَادُّهُ، وَعَلَى تَكْمِيلِهِ وَتَيْسِيرِ أَسْبَابِهِ، فَتَأَمَّلْهَا. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ فَإِذَا هُوَ سُؤَالُ الْعَوْنِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . وَمُقَابِلُ هَؤُلَاءِ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُمُ الْمُعْرِضُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، فَلَا عِبَادَةَ وَلَا اسْتِعَانَةَ، بَلْ إِنْ سَأَلَهُ أَحَدُهُمْ وَاسْتَعَانَ بِهِ فَعَلَى حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ، لَا عَلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِ وَحُقُوقِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ وَيَمُدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَأَبْغَضُ خَلْقِهِ عَدُّوُهُ إِبْلِيسُ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ سَأَلَهُ حَاجَةً فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَمَتَّعَهُ بِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ عَوْنًا لَهُ عَلَى مَرْضَاتِهِ، كَانَتْ زِيَادَةً لَهُ فِي شِقْوَتِهِ، وَبُعْدِهِ عَنِ اللَّهِ وَطَرْدِهِ عَنْهُ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى أَمْرٍ وَسَأَلَهُ إِيَّاهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَوْنًا عَلَى طَاعَتِهِ كَانَ مُبْعِدًا لَهُ عَنْ مَرْضَاتِهِ، قَاطِعًا لَهُ عَنْهُ وَلَا بُدَّ. وَلْيَتَأَمَّلِ الْعَاقِلُ هَذَا فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ إِجَابَةَ اللَّهِ لِسَائِلِيهِ لَيْسَتْ لِكَرَامَةِ السَّائِلِ عَلَيْهِ، بَلْ يَسْأَلُهُ عَبْدُهُ الْحَاجَةَ فَيَقْضِيهَا لَهُ، وَفِيهَا هَلَاكُهُ وَشِقْوَتُهُ، وَيَكُونُ قَضَاؤُهُ لَهُ مِنْ هَوَانِهِ عَلَيْهِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ، وَيَكُونُ مَنْعُهُ مِنْهَا لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، فَيَمْنَعُهُ حِمَايَةً وَصِيَانَةً وَحِفْظًا لَا بُخْلًا، وَهَذَا إِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِعَبْدِهِ الَّذِي يُرِيدُ كَرَامَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَيُعَامِلُهُ بِلُطْفِهِ، فَيَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يُكْرِمُهُ، وَيَرَاهُ يَقْضِي حَوَائِجَ غَيْرِهِ، فَيُسِيءُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَهَذَا حَشْوُ قَلْبِهِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، وَالْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَعَلَامَةُ هَذَا حَمْلُهُ عَلَى الْأَقْدَارِ وَعِتَابُهُ الْبَاطِنُ لَهَا، كَمَا قِيلَ: وَعَاجِزُ الرَّأْيِ مِضْيَاعٌ لِفُرْصَتِهِ حَتَّى إِذَا فَاتَ أَمْرٌ عَاتَبَ الْقَدَرَا فَوَاللَّهِ لَوْ كَشَفَ عَنْ حَاصِلِهِ وَسِرِّهِ لَرَأَى هُنَاكَ مُعَاتَبَةَ الْقَدَرِ وَاتِّهَامَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ مَا حِيلَتِي، وَالْأَمْرُ لَيْسَ إِلَيَّ؟ وَالْعَاقِلُ خَصْمُ نَفْسِهِ، وَالْجَاهِلُ خَصْمُ أَقْدَارِ رَبِّهِ. فَاحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ تَسْأَلَهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا خِيرَتُهُ وَعَاقِبَتُهُ مُغَيَّبَةٌ عَنْكَ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ سُؤَالِهِ بُدًّا، فَعَلِّقْهُ عَلَى شَرْطِ عِلْمِهِ تَعَالَى فِيهِ الْخِيَرَةَ، وَقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيْ سُؤَالِكَ الِاسْتِخَارَةَ، وَلَا تَكُنِ اسْتِخَارَةٌ بِاللِّسَانِ بِلَا مَعْرِفَةٍ، بَلِ اسْتِخَارَةُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَصَالِحِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا اهْتِدَاءَ لَهُ إِلَى تَفَاصِيلِهَا، وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، بَلْ إِنْ وُكِّلَّ إِلَى نَفْسِهِ هَلَكَ كُلَّ الْهَلَاكِ، وَانْفَرَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ. وَإِذَا أَعْطَاكَ مَا أَعْطَاكَ بِلَا سُؤَالٍ تَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَوْنًا لَكَ عَلَى طَاعَتِهِ وَبَلَاغًا إِلَى مَرْضَاتِهِ، وَلَا يَجْعَلَهُ قَاطِعًا لَكَ عَنْهُ، وَلَا مُبْعِدًا عَنْ مَرْضَاتِهِ، وَلَا تَظُنُّ أَنَّ عَطَاءَهُ كُلَّ مَا أَعْطَى لِكَرَامَةِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، وَلَا مَنْعَهُ كُلَّ مَا يَمْنَعُهُ لِهَوَانِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ عَطَاءَهُ وَمَنْعَهُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ، يَمْتَحِنُ بِهِمَا عِبَادَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ - وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ - كَلَّا} [الفجر: 15 - 17] أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَعْطَيْتُهُ وَنَعَّمْتُهُ وَخَوَّلْتُهُ فَقَدْ أَكْرَمْتُهُ، وَمَا ذَاكَ لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ مِنِّي، وَامْتِحَانٌ لَهُ أَيَشْكُرُنِي فَأُعْطِيَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، أَمْ يَكْفُرُنِي فَأَسْلُبَهُ إِيَّاهُ، وَأُخَوِّلَ فِيهِ غَيْرَهُ؟ وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ابْتَلَيْتُهُ فَضَيَّقْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَجَعَلْتُهُ بِقَدَرٍ لَا يُفَضَّلُ عَنْهُ، فَذَلِكَ مِنْ هَوَانِهِ عَلَيَّ، وَلَكِنَّهُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ مِنِّي لَهُ أَيَصْبِرُ فَأُعْطِيَهُ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا فَاتَهُ مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ، أَمْ يَتَسَخَّطُ فَيَكُونَ حَظُّهُ السُّخْطَ؟ . فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ سَعَةَ الرِّزْقِ إِكْرَامٌ، وَأَنَّ الْفَقْرَ إِهَانَةٌ، فَقَالَ: لَمْ أَبْتَلِ عَبْدِي بِالْغِنَى لِكَرَامَتِهِ عَلَيَّ، وَلَمْ أَبْتَلِهِ بِالْفَقْرِ لِهَوَانِهِ عَلَيَّ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِكْرَامَ وَالْإِهَانَةَ لَا يَدُورَانِ عَلَى الْمَالِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَتَقْدِيرِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُوَسِّعُ عَلَى الْكَافِرِ لَا لِكَرَامَتِهِ، وَيُقَتِّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ لَا لِإِهَانَتِهِ، إِنَّمَا يُكْرِمُ مَنْ يُكْرِمُهُ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، وَيُهِينُ مَنْ يُهِينُهُ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَمَعْصِيَتِهِ، فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.فَعَادَتْ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .[/COLOR] |
[COLOR=rgb(147, 101, 184)]
قطوف من مدارج السالكين ****************** الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ لَهُ نَوْعُ عِبَادَةٍ بِلَا اسْتِعَانَةٍ، وَهَؤُلَاءِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَدَرِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ بِالْعَبْدِ جَمِيعَ مَقْدُورِهِ مِنَ الْأَلْطَافِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي مَقْدُورِهِ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَعَانَهُ بِخَلْقِ الْآلَاتِ وَسَلَامَتِهَا، وَتَعْرِيفِ الطَّرِيقِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَتَمْكِينِهِ مِنَ الْفِعْلِ، فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا إِعَانَةٌ مَقْدُورَةٌ يَسْأَلُهُ إِيَّاهَا، بَلْ قَدْ سَاوَى بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ فِي الْإِعَانَةِ، فَأَعَانَ هَؤُلَاءِ كَمَا أَعَانَ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنَّ أَوْلِيَاءَهُ اخْتَارُوا لِنُفُوسِهِمُ الْإِيمَانَ، وَأَعْدَاءَهُ اخْتَارُوا لِنُفُوسِهِمُ الْكُفْرَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَفَّقَ هَؤُلَاءِ بِتَوْفِيقٍ زَائِدٍ أَوْجَبَ لَهُمُ الْإِيمَانَ، وَخَذَلَ هَؤُلَاءِ بِأَمْرٍ آخَرَ أَوْجَبَ لَهُمُ الْكُفْرَ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مَنْقُوصٌ مِنَ الْعِبَادَةِ، لَا اسْتِعَانَةَ مَعَهُ، فَهُمْ مَوْكُولُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، مَسْدُودٌ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوْحِيدِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَكَذَّبَ بِقَدَرِهِ نَقَضَ تَكْذِيبُهُ تَوْحِيدَهُ. النَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ لَهُمْ عِبَادَاتٌ وَأَوْرَادٌ، وَلَكِنَّ حَظَّهُمْ نَاقِصٌ مِنَ التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ، لَمْ تَتَّسِعْ قُلُوبُهُمْ لِارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْقَدَرِ، وَتَلَاشِيهَا فِي ضِمْنِهِ، وَقِيَامِهَا بِهِ،وَأَنَّهَا بِدُونِ الْقَدَرِ كَالْمَوَاتِ الَّذِي لَا تَأْثِيرَ لَهُ، بَلْ كَالْعَدَمِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ، وَأَنَّ الْقَدَرَ كَالرُّوحِ الْمُحَرِّكِ لَهَا، وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْمُحَرِّكِ الْأَوَّلِ. فَلَمْ تَنْفُذْ قُوَى بَصَائِرِهِمْ مِنَ الْمُتَحَرِّكِ إِلَى الْمُحَرِّكِ، وَمِنَ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبَّبِ، وَمِنَ الْآلَةِ إِلَى الْفَاعِلِ، فَضَعُفَتْ عَزَائِمُهُمْ وَقَصُرَتْ هِمَمُهُمْ، فَقَلَّ نَصِيبُهُمْ مِنْ " {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " وَلَمْ يَجِدُوا ذَوْقَ التَّعَبُّدِ بِالتَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَإِنْ وَجَدُوا ذَوْقَهُ بِالْأَوْرَادِ وَالْوَظَائِفِ. فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ التَّوْفِيقِ وَالنُّفُوذِ وَالتَّأْثِيرِ، بِحَسَبِ اسْتِعَانَتِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ، وَلَهُمْ مِنَ الْخُذْلَانِ وَالضَّعْفِ وَالْمَهَانَةِ وَالْعَجْزِ بِحَسَبِ قِلَّةِ اسْتِعَانَتِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ، وَلَوْ تَوَكَّلَ الْعَبْدُ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ فِي إِزَالَةِ جَبَلٍ عَنْ مَكَانِهِ وَكَانَ مَأْمُورًا بِإِزَالَتِهِ لَأَزَالَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ؟ . قُلْتُ: هُوَ حَالٌ لِلْقَلْبِ يَنْشَأُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ، وَالْإِيمَانِ بِتَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأِ النَّاسُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ شَاءَهُ النَّاسُ، فَيُوجِبُ لَهُ هَذَا اعْتِمَادًا عَلَيْهِ، وَتَفْوِيضًا إِلَيْهِ، وَطُمَأْنِينَةً بِهِ، وَثِقَةً بِهِ، وَيَقِينًا بِكِفَايَتِهِ لِمَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مَلِيٌّ بِهِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، شَاءَهُ النَّاسُ أَمْ أَبَوْهُ. فَتُشْبِهُ حَالَتُهُ حَالَةَ الطِّفْلِ مَعَ أَبَوَيْهِ فِيمَا يَنْوِيهِ مِنْ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ هُمَا مَلِيَّانِ بِهِمَا، فَانْظُرْ فِي تَجَرُّدِ قَلْبِهِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ أَبَوَيْهِ، وَحَبْسِ هَمِّهِ عَلَى إِنْزَالِ مَا يَنْوِيهِ بِهِمَا، فَهَذِهِ حَالُ الْمُتَوَكِّلِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا مَعَ اللَّهِ فَاللَّهُ كَافِيهِ وَلَا بُدَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أَيْ كَافِيهِ، وَالْحَسْبُ الْكَافِي، فَإِنْ كَانَ مَعَ هَذَا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى فَهُوَ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَنْ شَهِدَ تَفَرُّدَ اللَّهِ بِالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يَدْرِ مَعَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَأَغْرَاضِهِ، وَطَلَبَهَا مِنْهُ، وَأَنْزَلَهَا بِهِ، فَقُضِيَتْ لَهُ، وَأُسْعِفَ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ أمْوَالًا أَوْ رِيَاسَةً أَوْ جَاهًا عِنْدَ الْخَلْقِ، أَوْ أَحْوَالًا مِنْ كَشْفٍ وَتَأْثِيرٍ وَقُوَّةٍ وَتَمْكِينٍ، وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ، فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ الظَّاهِرِ، وَالْأَمْوَالُ لَا تَسْتَلْزِمُ الْإِسْلَامَ، فَضْلًا عَنِ الْوِلَايَةِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُلْكَ وَالْجَاهَ وَالْمَالَ وَالْحَالَ مُعْطَاةٌ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لِمَنْ آتَاهُ إِيَّاهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِ الْمُقَرَّبِينَ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ، وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ دِينِهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَيَكْرَهُهُ وَيُسْخِطُهُ، فَالْحَالُ مِنَ الدُّنْيَا، فَهُوَ كَالْمُلْكِ. وَالْمَالِ إِنْ أَعَانَ صَاحِبَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ أَلْحَقَهُ بِالْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ الْبَرَرَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَمُبْعِدٌ لَهُ عَنِ اللَّهِ، وَمُلْحِقٌ لَهُ بِالْمُلُوكِ الظَّلَمَةِ، وَالْأَغْنِيَاءِ الْفَجَرَةِ.[/COLOR] |
اللهم اجعل القران الكريم ربيع قلوبنا
ماشاء الله موضوع متكامل ان شاء الله هأكمل قراءته وجزاك الله كل خير |
[COLOR=rgb(97, 189, 109)]قطوف من مدارج السالكين
******************* مَنْ لَا إِخْلَاصَ لَهُ وَلَا مُتَابَعَةَ فَصْلٌ الضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ لَا إِخْلَاصَ لَهُ وَلَا مُتَابَعَةَ، فَلَيْسَ عَمَلُهُ مُوَافِقًا لِشَرْعٍ، وَلَيْسَ هُوَ خَالِصًا لِلْمَعْبُودِ، كَأَعْمَالِ الْمُتَزَيِّنِينَ لِلنَّاسِ، الْمُرَائِينَ لَهُمْ بِمَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَهَؤُلَاءِ شِرَارُ الْخَلْقِ، وَأَمْقَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَهُمْ أَوْفَرُ نَصِيبٍ مِنْ قَوْلِهِ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188]. يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ وَالشِّرْكِ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْإِخْلَاصِ. وَهَذَا الضَّرْبُ يَكْثُرُ فِيمَنِ انْحَرَفَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْفَقْرِ وَالْعِبَادَةِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّهُمْ يَرْتَكِبُونَ الْبِدَعَ وَالضَّلَالَاتِ، وَالرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ مِنَ الِاتِّبَاعِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْعِلْمِ، فَهُمْ أَهْلُ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ.[/COLOR] |
[COLOR=rgb(65, 168, 95)]قطوف من مدارج السالكين
**********"******** مُخْلِصٌ فِي أَعْمَالِهِ لَكِنَّهَا عَلَى غَيْرِ مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ فَصْلٌ الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَنْ هُوَ مُخْلِصٌ فِي أَعْمَالِهِ، لَكِنَّهَا عَلَى غَيْرِ مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، كَجُهَّالِ الْعُبَّادِ، وَالْمُنْتَسِبِينَ إِلَى طَرِيقِ الزُّهْدِ وَالْفَقْرِ، وَكُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَاعْتَقَدَ عِبَادَتَهُ هَذِهِ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ فَهَذَا حَالُهُ، كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ الْخَلْوَةَ الَّتِي يَتْرُكُ فِيهَا الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ مُوَاصَلَةَ صَوْمِ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ صِيَامَ يَوْمِ فِطْرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ قُرْبَةٌ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. مَنْ أَعْمَالُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ لَكِنَّهَا لِغَيْرِ اللَّهِ فَصْلٌ الضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَنْ أَعْمَالُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، لَكِنَّهَا لِغَيْرِ اللَّهِ، كَطَاعَةِ الْمُرَائِينَ، وَكَالرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً وَحَمِيَّةً وَشَجَاعَةً، وَيَحُجُّ لِيُقَالَ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ، فَهَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ ظَاهِرُهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، لَكِنَّهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ، فَلَا تُقْبَلُ. {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. فَكُلُّ أَحَدٍ لَمْ يُؤْمَرْ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ بِمَا أَمَرَ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَهُمْ أَهْلُ: " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ".[/COLOR] |
قطوف من مدارج السالكين
********"*************** مُخْلِصٌ فِي أَعْمَالِهِ لَكِنَّهَا عَلَى غَيْرِ مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ فَصْلٌ الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَنْ هُوَ مُخْلِصٌ فِي أَعْمَالِهِ، لَكِنَّهَا عَلَى غَيْرِ مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، كَجُهَّالِ الْعُبَّادِ، وَالْمُنْتَسِبِينَ إِلَى طَرِيقِ الزُّهْدِ وَالْفَقْرِ، وَكُلِّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَاعْتَقَدَ عِبَادَتَهُ هَذِهِ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ فَهَذَا حَالُهُ، كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ الْخَلْوَةَ الَّتِي يَتْرُكُ فِيهَا الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ مُوَاصَلَةَ صَوْمِ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ قُرْبَةٌ، وَأَنَّ صِيَامَ يَوْمِ فِطْرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ قُرْبَةٌ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. مَنْ أَعْمَالُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ لَكِنَّهَا لِغَيْرِ اللَّهِ فَصْلٌ الضَّرْبُ الرَّابِعُ: مَنْ أَعْمَالُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، لَكِنَّهَا لِغَيْرِ اللَّهِ، كَطَاعَةِ الْمُرَائِينَ، وَكَالرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً وَحَمِيَّةً وَشَجَاعَةً، وَيَحُجُّ لِيُقَالَ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ، فَهَؤُلَاءِ أَعْمَالُهُمْ ظَاهِرُهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، لَكِنَّهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ، فَلَا تُقْبَلُ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] فَكُلُّ أَحَدٍ لَمْ يُؤْمَرْ إِلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ بِمَا أَمَرَ، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَهُمْ أَهْلُ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ". |
[COLOR=rgb(147, 101, 184)] قطوف من مدارج السالكين [/COLOR][COLOR=rgb(147, 101, 184)]
******************* فَصْلٌ أَهْلُ مَقَامِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ لَهُمْ فِي أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ وَأَنْفَعِهَا وَأَحَقِّهَا بِالْإِيثَارِ وَالتَّخْصِيصِ أَرْبَعُ طُرُقٍ فَصْلٌ ثُمَّ أَهْلُ مَقَامِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] " لَهُمْ فِي أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ وَأَنْفَعِهَا وَأَحَقِّهَا بِالْإِيثَارِ وَالتَّخْصِيصِ أَرْبَعُ طُرُقٍ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: عِنْدَهُمْ أَنْفَعُ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلُهَا أَشَقُّهَا عَلَى النُّفُوسِ وَأَصْعَبُهَا. قَالُوا: لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنْ هَوَاهَا، وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّعَبُّدِ. قَالُوا: وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَرَوَوْا حَدِيثًا لَا أَصْلَ لَهُ " «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحَمَزُهَا» " أَيْ أَصْعَبُهَا وَأَشَقُّهَا. وَهَؤُلَاءِ: هُمْ أَهْلُ الْمُجَاهَدَاتِ وَالْجَوْرِ عَلَى النُّفُوسِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا تَسْتَقِيمُ النُّفُوسُ بِذَلِكَ، إِذْ طَبْعُهَا الْكَسَلُ وَالْمَهَانَةُ، وَالْإِخْلَادُ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا تَسْتَقِيمُ إِلَّا بِرُكُوبِ الْأَهْوَالِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ. الصِّنْفُ الثَّانِي: قَالُوا: أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ التَّجَرُّدُ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَلُّلُ مِنْهَا غَايَةَ الْإِمْكَانِ، وَاطِّرَاحُ الِاهْتِمَامِ بِهَا، وَعَدَمُ الِاكْتِرَاثِ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْهَا. ثُمَّ هَؤُلَاءِ قِسْمَانِ: فَعَوَامُّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذَا غَايَةٌ، فَشَمَّرُوا إِلَيْهِ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ، وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهِ . وَقَالُوا: هُوَ أَفْضَلُ مِنْ دَرَجَةِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، فَرَأَوُا الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا غَايَةَ كُلِّ عِبَادَةٍ وَرَأْسَهَا. وَخَوَاصُهُمْ رَأَوْا هَذَا مَقْصُودًا لِغَيْرِهِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، وَجَمْعُ الْهِمَّةِ عَلَيْهِ، وَتَفْرِيغُ الْقَلْبِ لِمَحَبَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمَرْضَاتِهِ، فَرَأَوْا أَنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ فِي الْجَمْعِيَّةِ عَلَى اللَّهِ، وَدَوَامِ ذِكْرِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَالِاشْتِغَالِ بِمُرَاقَبَتِهِ، دُونَ كُلِّ مَا فِيهِ تَفْرِيقٌ لِلْقَلْبِ وَتَشْتِيتٌ لَهُ. ثُمَّ هَؤُلَاءِ قِسْمَانِ: فَالْعَارِفُونَ الْمُتَّبِعُونَ مِنْهُمْ إِذَا جَاءَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بَادَرُوا إِلَيْهِ وَلَوْ فَرَّقَهُمْ وَأَذْهَبَ جَمْعِيَّتَهُمْ. وَالْمُنْحَرِفُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادَةِ جَمْعِيَّةُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ، فَإِذَا جَاءَ مَا يُفَرِّقُهُ عَنِ اللَّهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا يَقُولُ قَائِلُهُمْ: يُطَالَبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِلًا فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ ثُمَّ هَؤُلَاءِ أَيْضًا قِسْمَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ الْوَاجِبَاتِ وَالْفَرَائِضَ لِجَمْعِيَّتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَيَتْرُكُ السُّنَنَ وَالنَّوَافِلَ، وَتَعَلُّمَ الْعِلْمِ النَّافِعِ لِجَمْعِيَّتِهِ. وَسَأَلَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ شَيْخًا عَارِفًا، فَقَالَ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَنَا فِي جَمْعِيَّتِي عَلَى اللَّهِ، فَإِنْ قُمْتُ وَخَرَجْتُ نَفَقْتُ، وَإِنْ بَقِيتُ عَلَى حَالِي بَقِيتُ عَلَى جَمْعِيَّتِي، فَمَا الْأَفْضَلُ فِي حَقِّي؟ فَقَالَ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَنْتَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَقُمْ، وَأَجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ، ثُمَّ عُدْ إِلَى مَوْضِعِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ عَلَى اللَّهِ حَظُّ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، وَإِجَابَةَ الدَّاعِي حَقُّ الرَّبِّ، وَمَنْ آثَرَ حَظَّ رُوحِهِ عَلَى حَقِّ رَبِّهِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ". [/COLOR] [COLOR=rgb(147, 101, 184)] 🌹 يتبع [/COLOR] |
[COLOR=rgb(147, 101, 184)]قطوف من مدارج السالكين [/COLOR]
*********************** الصِّنْفُ الثَّالِثُ: رَأَوْا أَنَّ أَنْفَعَ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلَهَا: مَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ مُتَعَدٍّ، فَرَأَوْهُ أَفْضَلَ مِنْ ذِي النَّفْعِ الْقَاصِرِ، فَرَأَوْا خِدْمَةَ الْفُقَرَاءِ، وَالِاشْتِغَالَ بِمَصَالِحِ النَّاسِ وَقَضَاءَ حَوَائِجِهِمْ، وَمُسَاعَدَتِهِمْ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنَّفْعِ أَفْضَلَ، فَتَصَدَّوْا لَهُ وَعَمِلُوا عَلَيْهِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عَمَلَ الْعَابِدِ قَاصِرٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَمَلَ النَّفَّاعِ مُتَعَدٍّ إِلَى الْغَيْرِ، وَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ؟ . قَالُوا: وَلِهَذَا كَانَ فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ». وَهَذَا التَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ لِلنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ». وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ». وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَالنَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا» . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ صَاحِبَ الْعِبَادَةِ إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَصَاحِبَ النَّفْعِ لَا يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ، مَا دَامَ نَفْعُهُ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا بُعِثُوا بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ وَهِدَايَتِهِمْ، وَنَفْعِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، لَمْ يُبْعَثُوا بِالْخُلْوَاتِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ وَالتَّرَهُّبِ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ هَمُّوا بِالِانْقِطَاعِ لِلتَّعَبُّدِ، وَتَرْكِ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَرَأَى هَؤُلَاءِ التَّفَرُّقَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَنَفْعَ عِبَادِهِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، أَفْضَلَ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ: قَالُوا: إِنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَةِ الْعَمَلُ عَلَى مَرْضَاةِ الرَّبِّ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَوَظِيفَتُهُ، فَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ فِي وَقْتِ الْجِهَادِ: الْجِهَادُ، وَإِنْ آَلَ إِلَى تَرْكِ الْأَوْرَادِ، مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، بَلْ وَمِنْ تَرْكِ إِتْمَامِ صَلَاةِ الْفَرْضِ، كَمَا فِي حَالَةِ الْأَمْنِ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ حُضُورِ الضَّيْفِ مَثَلًا الْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ الْوِرْدِ الْمُسْتَحَبِّ، وَكَذَلِكَ فِي أَدَاءِ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَالْأَهْلِ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ السَّحَرِ الِاشْتِغَالُ بِالصَّلَاةِ وَالْقُرْآنِ، وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ اسْتِرْشَادِ الطَّالِبِ، وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ الْإِقْبَالُ عَلَى تَعْلِيمِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ الْأَذَانِ تَرْكُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ وِرْدِهِ، وَالِاشْتِغَالُ بِإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْجِدُّ وَالنُّصْحُ فِي إِيقَاعِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْخُرُوجُ إِلَى الْجَامِعِ، وَإِنْ بَعُدَ كَانَ أَفْضَلَ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَوْقَاتِ ضَرُورَةِ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُسَاعَدَةِ بِالْجَاهِ، أَوِ الْبَدَنِ، أَوِ الْمَالِ الِاشْتِغَالُ بِمُسَاعَدَتِهِ، وَإِغَاثَةُ لَهْفَتِهِ، وَإِيثَارُ ذَلِكَ عَلَى أَوْرَادِكَ وَخَلْوَتِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ جَمْعِيَّةُ الْقَلْبِ وَالْهِمَّةِ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ، حَتَّى كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَاطِبُكَ بِهِ، فَتَجْمَعُ قَلْبَكَ عَلَى فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ أَعْظَمُ مِنْ جَمْعِيَّةِ قَلْبِ مَنْ جَاءَهُ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ الِاجْتِهَادُ فِي التَّضَرُّعِ وَالْدُعَاءِ وَالْذِكْرِ دُونَ الصَّوْمِ الْمُضْعِفِ عَنْ ذَلِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الْإِكْثَارُ مِنَ التَّعَبُّدِ، لَاسِيَّمَا التَّكْبِيرُ وَالْتَهْلِيلُ وَالْتَحْمِيدُ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْجِهَادِ غَيْرِ الْمُتَعَيَّنِ. وَالْأَفْضَلُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ لُزُومُ الْمَسْجِدِ فِيهِ وَالْخَلْوَةِ وَالِاعْتِكَافِ دُونَ التَّصَدِّي لِمُخَالَطَةِ النَّاسِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَى تَعْلِيمِهِمُ الْعِلْمَ، وَإقْرَائِهِمُ الْقُرْآنَ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ مَرَضِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ أَوْ مَوْتِهِ عِيَادَتُهُ، وَحُضُورُ جِنَازَتِهِ وَتَشْيِيعُهُ، وَتَقْدِيمُ ذَلِكَ عَلَى خَلْوَتِكَ وَجَمْعِيَّتِكَ. وَالْأَفْضَلُ فِي وَقْتِ نُزُولِ النَّوَازِلِ وَأَذَاةِ النَّاسِ لَكَ أَدَاءُ وَاجِبِ الصَّبْرِ مَعَ خُلْطَتِكَ بِهِمْ، دُونَ الْهَرَبِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ لِيَصْبِرَ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يُؤْذُونَهُ. وَالْأَفْضَلُ خُلْطَتُهُمْ فِي الْخَيْرِ، فَهِيَ خَيْرٌ مِنَ اعْتِزَالِهِمْ فِيهِ، وَاعْتِزَالُهُمْ فِي الشَّرِّ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ خُلْطَتِهِمْ فِيهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا خَالَطَهُمْ أَزَالَهُ أَوْ قَلَّلَهُ فَخُلْطَتُهُمْ حِينَئِذٍ أَفْضَلُ مِنِ اعْتِزَالِهِمْ. فَالْأَفْضَلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ إِيثَارُ مَرْضَاةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وَالِاشْتِغَالُ بِوَاجِبِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَوَظِيفَتِهِ وَمُقْتَضَاهُ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التَّعَبُّدِ الْمُطْلَقِ، وَالْأَصْنَافُ قِبَلَهُمْ أَهْلُ التَّعَبُّدِ الْمُقَيَّدِ، فَمَتَى خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنِ النَّوْعِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَفَارَقَهُ يَرَى نَفْسَهُ كَأَنَّهُ قَدْ نَقَصَ وَتَرَكَ عِبَادَتَهُ، فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَصَاحِبُ التَّعَبُّدِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي تَعَبُّدٍ بِعَيْنِهِ يُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ غَرَضُهُ تَتَبُّعُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْنَ كَانَتْ، فَمَدَارُ تَعَبُّدِهِ عَلَيْهَا، فَهُوَ لَا يَزَالُ مُتَنَقِّلًا فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ، كُلَّمَا رُفِعَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عَمِلَ عَلَى سَيْرِهِ إِلَيْهَا، وَاشْتَغَلَ بِهَا حَتَّى تَلُوحَ لَهُ مَنْزِلَةٌ أُخْرَى، فَهَذَا دَأْبَهُ فِي السَّيْرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ سَيْرُهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ الْعُلَمَاءَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْعُبَّادَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْمُجَاهِدِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الذَّاكِرِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْمُتَصَدِّقِينَ الْمُحْسِنِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَرْبَابَ الْجَمْعِيَّةِ وَعُكُوفِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْعَبْدُ الْمُطْلَقُ، الَّذِي لَمْ تَمْلِكْهُ الرُّسُومُ، وَلَمْ تُقَيِّدْهُ الْقُيُودُ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ عَلَى مُرَادِ نَفْسِهِ وَمَا فِيهِ لَذَّتُهَا وَرَاحَتُهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، بَلْ هُوَ عَلَى مُرَادِ رَبِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ رَاحَةُ نَفْسِهِ وَلَذَّتُهَا فِي سِوَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُتَحَقِّقُ بِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " حَقًّا، الْقَائِمُ بِهِمَا صِدْقًا، مَلْبَسُهُ مَا تَهَيَّأَ، وَمَأْكَلُهُ مَا تَيَسَّرَ، وَاشْتِغَالُهُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِوَقْتِهِ، وَمَجْلِسُهُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَكَانُ وَوَجَدَهُ خَالِيًا، لَا تَمْلِكُهُ إِشَارَةٌ، وَلَا يَتَعَبَّدُهُ قَيْدٌ، وَلَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ رَسْمٌ، حُرٌّ مُجَرَّدٌ، دَائِرٌ مَعَ الْأَمْرِ حَيْثُ دَارَ، يَدِينُ بِدِينِ الْآمِرِ أَنَّى تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهُ، وَيَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهُ، يَأْنَسُ بِهِ كُلُّ مُحِقٍّ، وَيَسْتَوْحِشُ مِنْهُ كُلُّ مُبْطِلٍ، كَالْغَيْثِ حَيْثُ وَقَعَ نَفَعَ، وَكَالْنَخْلَةِ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَكُلُّهَا مَنْفَعَةٌ حَتَّى شَوْكُهَا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْغِلْظَةِ مِنْهُ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْغَضَبِ إِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَمَعَ اللَّهِ، قَدْ صَحِبَ اللَّهَ بِلَا خَلْقٍ، وَصَحِبَ النَّاسَ بِلَا نَفْسٍ، بَلْ إِذَا كَانَ مَعَ اللَّهِ عَزَلَ الْخَلَائِقَ عَنِ الْبَيْنِ، وَتَخَلَّى عَنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ مَعَ خَلْقِهِ عَزَلَ نَفْسَهُ مِنَ الْوَسَطِ وَتَخَلَّى عَنْهَا. فَوَاهًا لَهُ! مَا أَغْرَبَهُ بَيْنَ النَّاسِ! وَمَا أَشَدَّ وَحْشَتَهُ مِنْهُمْ! وَمَا أَعْظَمَ أُنْسَهُ بِاللَّهِ وَفَرَحَهُ بِهِ، وَطُمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ إِلَيْهِ! ! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ الْتُكْلَانُ. |
[COLOR=rgb(97, 189, 109)]قطوف من مدارج السالكين
********************** فَصْلٌ مَنْفَعَةُ الْعِبَادَةِ وَحِكْمَتُهَا وَمَقْصُودُهَا وَانْقِسَامُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ نُفَاةُ التَّعْلِيلِ فَصْلٌ ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي مَنْفَعَةِ الْعِبَادَةِ وَحِكْمَتِهَا وَمَقْصُودِهَا طُرُقٌ أَرْبَعَةٌ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ.الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: نُفَاةُ الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ، الَّذِينَ يَرُدُّونَ الْأَمْرَ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، وَصِرْفِ الْإِرَادَةِ، فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمُ الْقِيَامُ بِهَا لَيْسَ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِسَعَادَةٍ فِي مَعَاشٍ وَلَا مَعَادٍ، وَلَا سَبَبًا لِنَجَاةٍ، وَإِنَّمَا الْقِيَامُ بِهَا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، كَمَا قَالُوا فِي الْخَلْقِ: إِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِعِلَّةٍ، وَلَا لِغَايَةٍ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِهِ، وَلَا لِحِكْمَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَسْبَابٌ مُقْتَضِيَاتٌ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَلَا فِيهَا قُوًى وَلَا طَبَائِعُ، فَلَيْسَتِ النَّارُ سَبَبًا لِلْإِحْرَاقِ، وَلَا الْمَاءُ سَبَبًا لِلْإِرْوَاءِ وَالَبْرِيدِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ، وَلَا فِيهِ قُوَّةٌ وَلَا طَبِيعَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَحُصُولُ الْإِحْرَاقِ وَالرِّيِّ لَيْسَ بِهِمَا، لَكِنْ بِإِجْرَاءِ الْعَادَةِ الْاِقْتِرَانِيَّةِ عَلَى حُصُولِ هَذَا عِنْدَ هَذَا لَا بِسَبَبٍ وَلَا بِقُوَّةٍ قَامَتْ بِهِ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ فِي أَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، وَلَكِنَّ الْمَشِيئَةَ اقْتَضَتْ أَمْرَهُ بِهَذَا وَنَهْيَهُ عَنْ هَذَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ صِفَةٌ اقْتَضَتْ حُسْنَهُ، وَلَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ صِفَةٌ اقْتَضَتْ قُبْحَهُ. وَلِهَذَا الْأَصْلِ لَوَازِمُ وَفُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فَاسِدَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى " مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ وَمَطْلَبُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ " وَبَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ نَحْوِ سِتِّينَ وَجْهًا، وَهُوَ كِتَابٌ بَدِيعٌ فِي مَعْنَاهُ، وَذَكَرْنَاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ وَطَرِيقُ السَّعَادَتَيْنِ ". وَهَؤُلَاءِ لَا يَجِدُونَ حَلَاوَةَ الْعِبَادَةِ وَلَا لَذَّتَهَا، وَلَا يَتَنَعَّمُونَ بِهَا، وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ قُرَّةَ أَعْيُنِهِمْ، وَلَيْسَتِ الْأَوَامِرُ سُرُورَ قُلُوبِهِمْ، وَغِذَاءَ أَرْوَاحِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ، وَلِهَذَا يُسَمُّونَهَا تَكَالِيفَ، أَيْ قَدْ كُلِّفُوا بِهَا، وَلَوْ سَمَّى مُدَّعٍ لِمَحَبَّةِ مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ تَكْلِيفًا، وَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ بِكُلْفَةٍ، لَمْ يَعُدَّهُ أَحَدٌ مُحِبًّا لَهُ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَؤُلَاءِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا يُحِبُّ ثَوَابَهُ وَمَا يَخْلُقُهُ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ، لَا أَنَّهُ يُحِبُّ ذَاتَهُ، فَجَعَلُوا الْمَحَبَّةَ لِمَخْلُوقِهِ دُونَهُ، وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ، فَأَنْكَرُوا حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ وَلُبَّهَا، وَحَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ كَوْنُهُ مَأْلُوهًا مَحْبُوبًا بِغَايَةِ الْحُبِّ، الْمَقْرُونِ بِغَايَةِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، فَأَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَحْبُوبًا، وَذَلِكَ إِنْكَارٌ لِإِلَهِيَّتِهِ، وَشَيْخُ هَؤُلَاءِ هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ الَّذِي ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ فِي يَوْمٍ أَضْحَى،وَقَالَ: إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَلَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَإِنَّمَا كَانَ إِنْكَارُهُ لِكَوْنِهِ تَعَالَى مَحْبُوبًا مُحِبًّا، لَمْ يُنْكِرْ حَاجَةَ إِبْرَاهِيمَ إِلَيْهِ، الَّتِي هِيَ الْخُلَّةُ عِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ، الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، فَكُلُّهُمْ أَخِلَّاءُ لِلَّهِ عِنْدَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِهِمْ هَذَا، وَإِنْكَارِهِمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " قُرَّةُ عُيُونِ الْمُحِبِّينَ، وَرَوْضَةُ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ " وَذَكَرْنَا فِيهِ وُجُوبُ تَعَلُّقِ الْمَحَبَّةِ بِالْحَبِيبِ الْأَوَّلِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالذَّوْقِيَّةِ وَالْفِطْرِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا كَمَالَ لِلْإِنْسَانِ بِدُونِ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا كَمَالَ لِجِسْمِهِ إِلَّا بِالرُّوحِ وَالْحَيَاةِ، وَلَا لِعَيْنِهِ إِلَّا بِالنُّورِ الْبَاصِرِ، وَلَا لِأُذُنِهِ إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ فَوْقَ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ.[/COLOR] |
الساعة الآن 02:59 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir