![]() |
[COLOR=rgb(226, 80, 65)] قطوف من مدارج السالكين
****************** [فَصْلٌ عِبَادَةُ الْجَوَارِحِ] وَأَمَّا الْعُبُودِيَّاتُ الْخَمْسُ عَلَى الْجَوَارِحِ فَعَلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مَرْتَبَةً أَيْضًا، إِذِ الْحَوَاسُّ خَمْسَةٌ، وَعَلَى كُلِّ حَاسَّةٍ خَمْسُ عُبُودِيَاتٍ. فَعَلَى السَّمْعِ وُجُوبُ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِ، مِنَ اسْتِمَاعِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَفُرُوضِهِمَا، وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا جَهَرَ بِهَا الْإِمَامُ، وَاسْتِمَاعُ الْخُطْبَةِ لِلْجُمْعَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ، إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ فِي اسْتِمَاعِهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ مِنْ رَدِّهِ، أَوِ الشَّهَادَةِ عَلَى قَائِلِهِ، أَوْ زِيَادَةِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ بِمَعْرِفَةِ ضِدِّهِمَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَاسْتِمَاعِ أَسْرَارِ مَنْ يَهْرُبُ عَنْكَ بِسِرِّهِ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُطْلِعَكَ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُتَضَمِّنًا لَحِقَّ لِلَّهِ يَجِبُ الْقِيَامُ بِهِ، أَوْ لِأَذَى مُسْلِمٍ يَتَعَيَّنُ نُصْحُهُ، وَتَحْذِيرُهُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعُ أَصْوَاتِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ الَّتِي تُخْشَى الْفِتْنَةُ بِأَصْوَاتِهِنَّ، إِذَا لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ شَهَادَةٍ، أَوْ مُعَامَلَةٍ، أَوِ اسْتِفْتَاءٍ، أَوْ مُحَاكَمَةٍ، أَوْ مُدَاوَاةٍ وَنَحْوِهَا. وَكَذَلِكَ اسْتِمَاعُ الْمَعَازِفِ، وَآلَاتِ الطَّرَبِ وَاللَّهْوِ، كَالْعُودِ وَالُنْبُورِ وَالْيَرَاعِ وَنَحْوَهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ سَدُّ أُذُنِهِ إِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ اسْتِمَاعَهُ، إِلَّا إِذَا خَافَ السُّكُونَ إِلَيْهِ وَالْإِنْصَاتَ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ لِتَجَنُّبِ سَمَاعِهَا وُجُوبُ سَدِّ الذَّرَائِعِ. وَنَظِيرُ هَذَا الْمُحْرِمُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَعَمُّدُ شَمِّ الطَّيبِ، وَإِذَا حَمَلَتِ الرِّيحُ رَائِحَتَهُ وَأَلْقَتْهَا فِي مَشَامِّهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سَدُّ أَنْفِهِ. وَنَظِيرُ هَذَا نَظْرَةُ الْفُجَاءَةِ لَا تَحْرُمُ عَلَى النَّاظِرِ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظْرَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا تَعَمَّدَهَا. وَأَمَّا السَّمْعُ الْمُسْتَحَبُّ فَكَاسْتِمَاعِ الْمُسْتَحَبِّ مِنَ الْعِلْمِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللَّهِ، وَاسْتِمَاعِ كُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ. وَالْمَكْرُوهُ عَكْسُهُ، وَهُوَ اسْتِمَاعُ كُلِّ مَا يُكْرَهُ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. وَالْمُبَاحُ ظَاهِرٌ. 🌺 يتبع 1 [/COLOR] |
[COLOR=rgb(226, 80, 65)] قطوف من مدارج السالكين
****************** وَأَمَّا النَّظَرُ الْوَاجِبُ: فَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ عِنْدَ تَعَيُّنِ تَعَلُّمِ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَالنَّظَرُ إِذَا تَعَيَّنَ لِتَمْيِيزِ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي يَأْكُلُهَا أَوْ يُنْفِقُهَا أَوْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا، وَالْأَمَانَاتِ الَّتِي يُؤَدِّيهَا إِلَى أَرْبَابِهَا لِيُمَيِّزَ بَيْنَهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالنَّظَرُ الْحَرَامُ النَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ بِشَهْوَةٍ مُطْلَقًا، وَبِغَيْرِهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ، كَنَظَرِ الْخَاطِبِ، وَالْمُسْتَامِ وَالْمَعَامِلِ، وَالشَّاهِدِ، وَالْحَاكِمِ، وَالطَّبِيبِ، وَذِي الْمَحْرَمِ. وَالْمُسْتَحَبُّ النَّظَرُ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ الَّتِي يَزْدَادُ بِهَا الرَّجُلُ إِيمَانًا وَعِلْمًا، وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ، وَوُجُوهِ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ وَالْوَالِدَيْنِ، وَالنَّظَرُ فِي آيَاتِ اللَّهِ الْمَشْهُودَةِ لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى تَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَالْمَكْرُوهُ فُضُولُ النَّظَرِ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ، فَإِنَّ لَهُ فُضُولًا كَمَا لِلِّسَانِ فُضُولًا، وَكَمْ قَادَ فُضُولُهَا إِلَى فُضُولٍ عَزَّ التَّخَلُّصُ مِنْهَا، وَأَعْيَى دَوَاؤُهَا، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ النَّظَرِ، كَمَا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ. وَالْمُبَاحُ النَّظَرُ الَّذِي لَا مَضَرَّةَ فِيهِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ وَلَا مَنْفَعَةَ. وَمِنَ النَّظَرِ الْحَرَامِ: النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَاتِ، وَهِيَ قِسْمَانِ: عَوْرَةٌ وَرَاءَ الثِّيَابِ، وَعَوْرَةٌ وَرَاءَ الْأَبْوَابِ. وَلَوْ نَظَرَ فِي الْعَوْرَةِ الَّتِي وَرَاءَ الْأَبْوَابِ فَرَمَاهُ صَاحِبُ الْعَوْرَةِ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَذَهَبَتْ هَدْرًا بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْ ضَعَفَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ، أَوْ تَأَوَّلَهُ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّاظِرِ سَبَبٌ يُبَاحُ النَّظَرُ لِأَجْلِهِ، كَعَوْرَةٍ لَهُ هُنَاكَ يَنْظُرُهَا، أَوْ رِيبَةٍ هُوَ مَأْمُورٌ أَوْ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا. 🌺 يتبع 2 [/COLOR] |
قطوف من مدارج السالكين
**************** وَأَمَّا الذَّوْقُ: الْوَاجِبُ فَتَنَاوُلُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ وَخَوْفِ الْمَوْتِ، فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ، مَاتَ عَاصِيًا قَاتِلًا لِنَفْسِهِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطَاوُسٌ: مَنِ اِضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ، دَخَلَ النَّارَ. وَمِنْ هَذَا تَنَاوُلُ الدَّوَاءِ إِذَا تَيَقَّنَ النَّجَاةَ بِهِ مِنَ الْهَلَاكِ، عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ ظَنَّ الشِّفَاءَ بِهِ، فَهَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ مُبَاحٌ، أَوِ الْأَفْضَلُ تَرْكُهُ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَالذَّوْقُ الْحَرَامُ: كَذَوْقِ الْخَمْرِ، وَالسُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، وَالذَّوْقِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ لِلصَّوْمِ الْوَاجِبِ. وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ: فَكَذَوْقِ الْمُشْتَبِهَاتِ، وَالْأَكْلِ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَذَوْقِ طَعَامِ الْفُجَاءَةِ، وَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي تَفَجَّأَ آكِلُهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْعُوَكَ إِلَيْهِ، وَكَأَكْلِ أَطْعِمَةِ الْمُرَائِينَ فِي الْوَلَائِمِ وَالدَّعَوَاتِ وَنَحْوِهَا، وَفِي السُّنَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «نَهَى عَنْ طَعَامِ الْمُتَبَارِينَ» ، وَذَوْقُ طَعَامِ مَنْ يُطْعِمُكَ حَيَاءً مِنْكَ لَا بِطِيبَةِ نَفْسٍ. وَالذَّوْقُ الْمُسْتَحَبُّ: أَكْلُ مَا يُعِينُكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِمَّا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ، وَالْأَكْلُ مَعَ الضَّيْفِ لِيَطِيبَ لَهُ الْأَكْلُ، فَيَنَالَ مِنْهُ غَرَضَهُ، وَالْأَكْلُ مِنْ طَعَامِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْوَاجِبِ إِجَابَتُهَا أَوِ الْمُسْتَحَبِّ. وَقَدْ أَوْجَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْأَكْلَ مِنَ الْوَلِيمَةِ الْوَاجِبِ إِجَابَتُهَا لِلْأَمْرِ بِهِ عَنِ الشَّارِعِ. وَالذَّوْقُ الْمُبَاحُ: مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ وَلَا رُجْحَانٌ. 🌺 يتبع 3 |
[COLOR=rgb(226, 80, 65)] قطوف من مدارج السالكين
***************** وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْعُبُودِيَّاتِ الْخَمْسِ بِحَاسَّةِ الشَّمِّ، فَالشَّمُّ الْوَاجِبُ: كُلُّ شَمٍّ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَالشَّمِّ الَّذِي تُعْلَمُ بِهِ هَذِهِ الْعَيْنُ هَلْ هِيَ خَبِيثَةٌ أَوْ طَيِّبَةٌ؟ وَهَلْ هِيَ سُمٌّ قَاتِلٌ أَوْ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ؟ أَوْ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ مَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ، وَمَا لَا يَمْلِكُ؟ وَمِنْ هَذَا شَمُّ الْمُقَوِّمِ، وَرَبِّ الْخِبْرَةِ عِنْدَ الْحُكْمِ بِالتَّقْوِيمِ، وَشَمُّ الْعَبِيدِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الشَّمُّ الْحَرَامُ: فَالتَّعَمُّدُ لِشَمِّ الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ، وَشَمِّ الطِّيبِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ، وَتَعَمُّدُ شَمِّ الطِّيبِ مِنَ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ خَشْيَةَ الِافْتِتَانِ بِمَا وَرَاءَهُ. وَأَمَّا الشَّمُّ الْمُسْتَحَبُّ: فَشَمُّ مَا يُعِينُكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَيُقَوِّي الْحَوَاسَّ، وَيَبْسُطُ النَّفْسَ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَمِنْ هَذَا هَدِيَّةُ الطِّيبِ وَالرَّيْحَانِ إِذَا أُهْدِيَتْ لَكَ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ، خَفِيفُ الْمَحْمَلِ» . وَالْمَكْرُوهُ: كَشَمِّ طِيَبِ الظَّلَمَةِ، وَأَصْحَابِ الشُّبُهَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْمُبَاحُ: مَا لَا مَنْعَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ وَلَا تَبِعَةَ، وَلَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ، وَلَا تَعَلُّقُ لَهُ بِالشَّرْعِ. 🌺 يتبع 4 [/COLOR] |
[COLOR=rgb(184, 49, 47)] قطوف من مدارج السالكين
***************** وَأَمَّا تَعَلُّقُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِحَاسَّةِ اللَّمْسِ: فَاللَّمْسُ الْوَاجِبُ كَلَمْسِ الزَّوْجَةِ حِينَ يَجِبُ جِمَاعُهَا، وَالْأَمَةِ الْوَاجِبِ إِعْفَافُهَا. وَالْحَرَامُ: لَمْسُ مَا لَا يَحِلُّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ. وَالْمُسْتَحَبُّ: إِذَا كَانَ فِيهِ غَضُّ بَصَرِهِ، وَكَفُّ نَفْسِهِ عَنِ الْحَرَامِ، وَإِعْفَافُ أَهْلِهِ. وَالْمَكْرُوهُ: لَمْسُ الزَّوْجَةِ فِي الْإِحْرَامِ لِلَذَّةٍ، وَكَذَلِكَ فِي الِاعْتِكَافِ، وَفِي الصِّيَامِ إِذَا لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ. وَمِنْ هَذَا لَمْسُ بَدَنِ الْمَيِّتِ لِغَيْرِ غَاسِلِهِ لِأَنَّ بَدَنَهُ قَدْ صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَوْرَةِ الْحَيِّ تَكْرِيمًا لَهُ، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ عَنِ الْعُيُونِ وَتَغْسِيلُهُ فِي قَمِيصِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَمْسُ فَخْذِ الرَّجُلِ إِذَا قُلْنَا هِيَ عَوْرَةٌ. وَالْمُبَاحُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ. وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ أَيْضًا مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْبَطْشِ بِالْيَدِ، وَالْمَشْيِ بِالرِّجْلِ، وَأَمْثِلَتُهَا لَا تَخْفَى. فَالتَّكَسُّبُ الْمَقْدُورُ لِلنَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ وَاجِبٌ، وَفِي وُجُوبِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ لِيُمَكِّنَهُ مِنْ أَدَاءِ دَيْنِهِ، وَلَا يَجِبُ لِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَفِي وُجُوبِهِ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ نَظَرٌ، وَالْأَقْوَى فِي الدَّلِيلِ وَجُوبُهُ لِدُخُولِهِ فِي الِاسْتِطَاعَةِ وَتَمَكُّنِهِ بِذَلِكَ مِنْ أَدَاءِ النُّسُكِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ وُجُوبِهِ. وَمِنَ الْبَطْشِ الْوَاجِبِ: إِعَانَةُ الْمُضْطَرِّ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَمُبَاشَرَةُ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ. وَالْحَرَامُ: كَقَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا، وَنَهْبُ الْمَالِ الْمَعْصُومِ، وَضَرْبُ مِنْ لَا يَحِلُّ ضَرْبُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَكَأَنْوَاعِ اللَّعِبِ الْمُحَرَّمِ بِالنَّصِّ كَالنَّرْدِ، أَوْ مَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَالشِّطْرَنْجِ، أَوْ مِثْلِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيث كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، أَوْ دُونَهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَنَحْوِ كِتَابَةِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ تَصْنِيفًا أَوْ نَسْخًا، إِلَّا مَقْرُونًا بِرَدِّهَا وَنَقْضِهَا، وَكِتَابَةِ الزُّورِ وَالظُّلْمِ، وَالْحُكْمِ الْجَائِرِ، وَالْقَذْفِ وَالتَّشْبِيبِ بِالنِّسَاءِ الْأَجَانِبِ، وَكِتَابَةِ مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ، وَلَاسِيَّمَا إِنْ كَسَبْتَ عَلَيْهِ مَالًا: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] وَكَذَلِكَ كِتَابَةُ الْمُفْتِي عَلَى الْفَتْوَى مَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا، فَالْإِثْمُ مَوْضُوعٌ عَنْهُ. وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَكَالْعَبَثِ وَاللَّعِبِ الَّذِي لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَكِتَابَةِ مَا لَا فَائِدَةَ فِي كِتَابَتِهِ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالْمُسْتَحَبُّ كِتَابَةُ كُلِّ مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ فِي الدِّينِ، أَوْ مَصْلَحَةٌ لِمُسْلِمٍ، وَالْإِحْسَانُ بِيَدِهِ بِأَنْ يَعِينَ صَانِعًا، أَوْ يَصْنَعَ لِأَخْرَقَ، أَوْ يُفْرِغَ مِنْ دَلْوِهِ فِي دَلْوِ الْمُسْتَسْقِي، أَوْ يَحْمِلَ لَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، أَوْ يُمْسِكَهَا حَتَّى يُحْمَلَ عَلَيْهَا، أَوْ يُعَاوِنَهُ بِيَدِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمِنْهُ لَمْسُ الرُّكْنِ بِيَدِهِ فِي الطَّوَافِ، وَفِي تَقْبِيلِهَا بَعْدَ اللَّمْسِ قَوْلَانِ. وَالْمُبَاحُ مَا لَا مَضَرَةَ فِيهِ وَلَا ثَوَابَ. وَأَمَّا الْمَشْيُ الْوَاجِبُ: فَالْمَشْيُ إِلَى الْجُمْعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِبِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ دَلِيلًا مَذْكُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمَشْيُ حَوْلَ الْبَيْتِ لِلطَّوَافِ الْوَاجِبِ، وَالْمَشْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَرْكُوبِهِ، وَالْمَشْيُ إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَالْمَشْيُ إِلَى صِلَةِ رَحِمِهِ، وَبِرِّ وَالِدَيْهِ، وَالْمَشْيُ إِلَى مَجَالِسِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ طَلَبُهُ وَتَعَلُّمُهُ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْحَجِّ إِذَا قَرُبَتِ الْمَسَافَةُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ. وَالْحَرَامُ: الْمَشْيُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ رَجِلِ الشَّيْطَانِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَعِنْ عَلَيْهِمْ بِرُكْبَانِ جُنْدِكَ وَمُشَاتِهِمْ، فَكُلُّ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ. وَكَذَلِكَ تَتَعَلَّقُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسُ بِالرُّكُوبِ أَيْضًا. فَوَاجِبُهُ فِي الرُّكُوبِ فِي الْغَزْوِ، وَالْجِهَادِ، وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ. وَمُسْتَحَبُّهُ فِي الرُّكُوبِ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَفِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ نِزَاعٌ هَلِ الرُّكُوبُ فِيهِ أَفْضَلُ، أَمْ عَلَى الْأَرْضِ؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ إِذَا تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً مِنْ تَعْلِيمٍ لِلْمَنَاسِكِ، وَاقْتِدَاءٍ بِهِ، وَكَانَ أَعْوَنَ عَلَى الدُّعَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الدَّابَّةِ. وَحَرَامُهُ: الرُّكُوبُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَكْرُوهُهُ الرُّكُوبُ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَكُلُّ مَا تَرْكُهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ. وَمُبَاحُهُ الرُّكُوبُ لِمَا لَمْ يَتَضَمَّنْ فَوْتَ أَجْرٍ، وَلَا تَحْصِيلَ وِزْرٍ. فَهَذِهِ خَمْسُونَ مَرْتَبَةً عَلَى عَشَرَةِ أَشْيَاءَ: الْقَلْبُ، وَاللِّسَانُ، وَالسَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالْأَنْفُ، وَالْفَمُ، وَالْيَدُ، وَالرِّجْلُ، وَالْفَرْجُ، وَالِاسْتِوَاءُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ.[/COLOR] |
قطوف من مدارج السالكين
****************** [مَنْزِلَةُ الْبَصِيرَةِ] فَالْبَصِيرَةُ مَعْنَاهَا نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، يَرَى بِهِ حَقِيقَةَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ رَأْيَ عَيْنٍ، فَيَتَحَقَّقُ مَعَ ذَلِكَ انْتِفَاعُهُ بِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ، وَتَضَرُّرُهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الْبَصِيرَةُ تَحَقُّقُ الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ وَالتَّضَرُّرُ بِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْبَصِيرَةُ مَا خَلَّصَكَ مِنَ الْحَيْرَةِ، إِمَّا بِإِيمَانٍ وَإِمَّا بِعِيَانٍ. وَالْبَصِيرَةُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، مَنِ اسْتَكْمَلَهَا فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْبَصِيرَةَ: بَصِيرَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَبَصِيرَةٌ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَبَصِيرَةٌ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. فَالْبَصِيرَةُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: أَنْ لَا يَتَأَثَّرَ إِيمَانُكَ بِشُبْهَةٍ تُعَارِضُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، بَلْ تَكُونُ الشُّبَهُ الْمُعَارِضَةُ لِذَلِكَ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةِ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي وُجُودِ اللَّهِ، فَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ فِي الْبَلَاءِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ. وَعَقْدُ هَذَا: أَنْ يَشْهَدَ قَلْبُكَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، مُتَكَلِّمًا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، بَصِيرًا بِحَرَكَاتِ الْعَالَمِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، وَأَشْخَاصِهِ وَذَوَاتِهِ، سَمِيعًا لِأَصْوَاتِهِمْ، رَقِيبًا عَلَى ضَمَائِرِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ، وَأَمْرُ الْمَمَالِكِ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ، نَازِلٌ مِنْ عِنْدِهِ وَصَاعِدٌ إِلَيْهِ، وَأَمْلَاكُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُنَفِّذُ أَوَامِرَهُ فِي أَقْطَارِ الْمَمَالِكِ، مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، مُنَزَّهًا عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَالْمِثَالِ، هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ، حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لَا يَنَامُ، عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، بَصِيرٌ يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ، عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، سَمِيعٌ يَسْمَعُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ، بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ، تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقًا وَعَدْلًا، وَجَلَّتْ صِفَاتُهُ أَنْ تُقَاسَ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ شَبَهًا وَمِثْلًا، وَتَعَالَتْ ذَاتُهُ أَنْ تُشْبِهَ شَيْئًا مِنَ الذَّوَاتِ أَصْلًا، وَوَسِعَتِ الْخَلِيقَةَ أَفْعَالُهُ عَدْلًا وَحِكْمَةً وَرَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَفَضْلًا، لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَلَهُ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ، وَلَهُ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ وَالْمَجْدُ، أَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَآخِرٌ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، ظَاهِرٌ لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، بَاطِنٌ لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا أَسْمَاءُ مَدْحٍ وَحَمْدٍ وَثَنَاءٍ وَتَمْجِيدٍ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ حُسْنَى، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، وَنُعُوتُهُ كُلُّهَا نُعُوتُ جَلَالٍ، وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ وَعَدْلٌ، كُلُّ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دَالٌّ عَلَيْهِ، وَمُرْشِدٌ لِمَنْ رَآهُ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ إِلَيْهِ، لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا، وَلَا تَرَكَ الْإِنْسَانَ سُدًى عَاطِلًا، بَلْ خَلَقَ الْخَلْقَ لِقِيَامِ تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِشُكْرِهَا إِلَى زِيَادَةِ كَرَامَتِهِ، تَعَرَّفَ إِلَى عِبَادِهِ بِأَنْوَاعِ التَّعَرُّفَاتِ، وَصَرَّفَ لَهُمُ الْآيَاتِ، وَنَوَّعَ لَهُمُ الدِّلَالَاتِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى مَحَبَّتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَبْوَابِ، وَمَدَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَهْدِهِ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، فَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ السَّابِغَةَ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ حُجَّتَهُ الْبَالِغَةَ، أَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ، وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَضَمَّنَ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ: أَنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ. وَتَفَاوُتُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبَصِيرَةِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ وَفَهْمِهَا، وَالْعِلْمِ بِفَسَادِ الشُّبَهِ الْمُخَالَفَةِ لِحَقَائِقِهَا. 🌺 يتبع 1 |
قطوف من مدارج السالكين
***************** وَتَجِدُ أَضْعَفَ النَّاسِ بَصِيرَةً أَهْلَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ، لِجَهْلِهِمْ بِالنُّصُوصِ وَمَعَانِيهَا، وَتَمَكُّنِ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ حَالَ الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ رَأَيْتَهُمْ أَتَمَّ بَصِيرَةً مِنْهُمْ، وَأَقْوَى إِيمَانًا، وَأَعْظَمَ تَسْلِيمًا لِلْوَحْيِ، وَانْقِيَادًا لِلْحَقِّ. فَصْلٌ: الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْبَصِيرَةِ الْبَصِيرَةُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهِيَ تَجْرِيدُهُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِتَأْوِيلٍ، أَوْ تَقْلِيدٍ، أَوْ هَوًى، فَلَا يَقُومُ بِقَلْبِهِ شُبْهَةٌ تُعَارِضُ الْعِلْمَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَلَا شَهْوَةَ تَمْنَعُ مِنْ تَنْفِيذِهِ وَامْتِثَالِهِ وَالْأَخْذِ بِهِ، وَلَا تَقْلِيدَ يُرِيحُهُ عَنْ بَذْلِ الْجُهْدِ فِي تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ مِشْكَاةِ النُّصُوصِ. وَقَدْ عَلِمَتْ بِهَذَا أَهْلُ الْبَصَائِرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِهِمْ. 🌺 يتبع 2 |
قطوف من مدارج السالكين
**************** فَصْلٌ: الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ الْبَصِيرَةُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَهِيَ أَنْ تَشْهَدَ قِيَامَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، عَاجِلًا وَآجِلًا، فِي دَارِ الْعَمَلِ وَدَارِ الْجَزَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُوجَبُ إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَإِنَّ الشَّكَّ فِي ذَلِكَ شَكٌّ فِي إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، بَلْ شَكُّ فِي وُجُودِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَلَا يَلِيقُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ تَعْطِيلُ الْخَلِيقَةِ، وَإِرْسَالُهَا هَمَلًا، وَتَرْكُهَا سُدًى، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذَا الْحُسْبَانِ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَشَهَادَةُ الْعَقْلِ بِالْجَزَاءِ كَشَهَادَتِهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمَعَادَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا اهْتُدِيَ إِلَى تَفَاصِيلِهِ بِالْوَحْيِ، وَلِهَذَا يَجْعَلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنْكَارَ الْمَعَادِ كُفْرًا بِهِ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ إِنْكَارٌ لِقُدْرَتِهِ وَلِإِلَهِيَّتِهِ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْكُفْرِ بِهِ، قَالَ تَعَالَى : {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5] . وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنْ تَعْجَبْ مِنْ قَوْلِهِمْ " {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] " فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ! كَيْفَ يُنْكِرُونَ هَذَا، وَقَدْ خُلِقُوا مِنْ تُرَابٍ، وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا. وَالثَّانِي: إِنْ تَعْجَبْ مِنْ شِرْكِهِمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، وَعَدَمِ انْقِيَادِهِمْ لِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِنْكَارُهُمْ لِلْبَعْثِ، وَقَوْلُهُمْ " {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5] " أَعْجَبُ. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: فَإِنْكَارُ الْمَعَادِ عَجَبٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَهُوَ مَحْضُ إِنْكَارِ الرَّبِّ وَالْكُفْرِ بِهِ، وَالْجَحْدِ لِإِلَهِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَسُلْطَانِهِ. وَلِصَاحِبِ الْمَنَازِلِ فِي الْبَصِيرَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى قَالَ: الْبَصِيرَةُ مَا يُخَلِّصُكَ مِنَ الْحَيْرَةِ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْخَبَرَ الْقَائِمَ بِتَمْهِيدِ الشَّرِيعَةِ يَصْدُرُ عَنْ عَيْنٍ لَا يُخَافُ عَوَاقِبُهَا، فَتَرَى مِنْ حَقِّهِ أَنْ تُؤَدِّيَهُ يَقِينًا، وَتَغْضَبَ لَهُ غَيْرَةً. وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِرٌ عَنْ حَقِيقَةٍ صَادِقَةٍ، لَا يَخَافُ مُتَّبِعُهَا فِيمَا بَعْدُ مَكْرُوهًا، بَلْ يَكُونُ آمِنًا مِنْ عَاقِبَةِ اتِّبَاعِهَا، إِذْ هِيَ حَقٌّ، وَمُتَّبِعُ الْحَقِّ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِ، وَمِنْ حَقِّ ذَلِكَ الْخَبَرِ عَلَيْكَ أَنْ تُؤَدِّيَ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا شَكْوَى، وَالْأَحْوَطُ بِكَ وَالَّذِي لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُكَ إِلَّا بِهِ تَنَاوُلُ الْأَمْرِ بِامْتِثَالٍ صَادِرٍ عَنْ تَصْدِيقٍ مُحَقَّقٍ، لَا يَصْحَبُهُ شَكٌّ، وَأَنْ تَغْضَبَ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ غَيْرَةً عَلَيْهِ أَنْ يَضِيعَ حَقُّهُ، وَيُهْمَلَ جَانِبُهُ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الْغَيْرَةُ عِنْدَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ تَمَامِ الْبَصِيرَةِ لِأَنَّهُ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَقِّ وَمُسْتَحَقِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِجْلَالِهِ تَكُونُ الْغَيْرَةُ عَلَيْهِ أَنْ يَضِيعَ، وَالْغَضَبُ عَلَى مَنْ أَضَاعَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّةِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْبَصِيرَةِ، فَكَمَا أَنَّ الشَّكَّ الْقَادِحَ فِي كَمَالِ الِامْتِثَالِ مُعَمٍّ لَعِينِ الْبَصِيرَةِ، فَكَذَلِكَ عَدَمُ الْغَضَبِ وَالْغَيْرَةِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ إِذَا ضُيِّعَتْ، وَمَحَارِمِهِ إِذَا انْتُهِكَتْ مُعَمٍّ لَعِينِ الْبَصِيرَةِ. 🌺 يتبع 3. |
قطوف من مدارج السالكين
******************** قَالَ: " الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَشْهَدَ فِي هِدَايَةِ الْحَقِّ وَإِضْلَالِهِ إِصَابَةَ الْعَدْلِ، وَفِي تَلْوِينِ أَقْسَامِهِ رِعَايَةَ الْبِرِّ، وَتُعَايِنَ فِي جَذْبِهِ حَبْلَ الْوَصْلِ ". يُرِيدُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِشُهُودِ الْعَدْلِ فِي هِدَايَتِهِ مَنْ هَدَاهُ، وَفِي إِضْلَالِهِ مَنْ أَضَلَّهُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَفَرُّدُهُ بِالْخَلْقِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ. وَالثَّانِي: وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، لَا بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ وَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا، وَتَنْزِيلِهَا مَنَازِلَهَا، بَلْ بِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ هُدَى مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَزْكُو عَلَى الْهُدَى، وَيَقْبَلُهُ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهِ، وَيُثْمِرُ عِنْدَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، أَصْلًا وَمِيرَاثًا، قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] وَهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ قَدْرَ نِعْمَتِهِ بِالْهُدَى، وَيَشْكُرُونَهُ عَلَيْهَا، وَيُحِبُّونَهُ وَيَحْمَدُونَهُ عَلَى أَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا عَدَلَ عَنْ مُوجَبِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فِي هِدَايَةِ مَنْ هَدَى، وَإِضْلَالِ مَنْ أَضَلَّ، وَلَمْ يَطْرُدْ عَنْ بَابِهِ وَلَمْ يُبْعِدْ عَنْ جَنَابِهِ مَنْ يَلِيقُ بِهِ التَّقْرِيبُ وَالْهُدَى وَالْإِكْرَامُ، بَلْ طَرَدَ مَنْ لَا يَلِيقُ بِهِ إِلَّا الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَحِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ تَأْبَى تَقْرِيبَهُ وَإِكْرَامَهُ، وَجَعْلَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ وَأَوْلِيَائِهِ. وَلَا يَبْقَى إِلَّا أَنْ يُقَالَ: فَلِمَ خَلَقَ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ؟ فَهَذَا سُؤَالُ جَاهِلٍ ظَالِمٍ ضَالٍّ، مُفْرِطٍ فِي الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالضَّلَالِ، لِأَنَّ خَلْقَ الْأَضْدَادِ وَالْمُتَقَابِلَاتِ هُوَ مِنْ كَمَالِ الرُّبُوبِيَّةِ، كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالنَّعِيمِ وَالْجَحِيمِ. قَوْلُهُ: ": وَفِي تَلْوِينِ أَقْسَامِهِ رِعَايَةُ الْبِرِّ ". يُرِيدُ بِتَلْوِينِ الْأَقْسَامِ: اخْتِلَافَهَا فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، مِنْ أَقْسَامِ الْأَمْوَالِ وَالْقُوَى، وَالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ، وَالصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا، قَسَّمَهَا عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْمَصْلَحَةِ، فَأَعْطَى كُلًّا مِنْهُمْ مَا يُصْلِحُهُ، وَمَا هُوَ الْأَنْفَعُ لَهُ، بِرًّا وَإِحْسَانًا. وَقَوْلُهُ: " وَتُعَايِنُ فِي جَذْبِهِ حَبْلَ الْوِصَالِ ". يُرِيدُ تُعَايِنُ فِي تَوْفِيقِهِ لَكَ لِلطَّاعَةِ، وَجَذْبِهِ إِيَّاكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّهُ يُرِيدُ تَقْرِيبَكَ مِنْهُ، فَاسْتَعَارَ لِلتَّوْفِيقِ الْخَاصِّ الْجَذْبَ، وَلِلتَّقْرِيبِ الْوِصَالَ، وَأَرَادَ بِالْحَبْلِ السَّبَبَ الْمُوَصِّلَ لَكَ إِلَيْهِ. فَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنَّكَ تَسْتَدِلُّ بِتَوْفِيقِهِ لَكَ، وَجَذْبِكَ نَفْسَكَ، وَجَعْلِكَ مُتَمَسِّكًا بِحَبْلِهِ الَّذِي هُوَ عَهْدُهُ وَوَصِيَّتُهُ إِلَى عِبَادِهِ عَلَى تَقْرِيبِهِ لَكَ، تُشَاهِدُ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَقْوَى فِي الْمَحَبَّةِ وَالشُّكْرِ، وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَمَامِ الْبَصِيرَةِ، فَمَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا. 🌺 يتبع 4 |
قطوف من مدارج السالكين
***************** قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: بَصِيرَةٌ تُفَجِّرُ الْمَعْرِفَةَ، وَتُثَبِّتُ الْإِشَارَةَ، وَتُنْبِتُ الْفِرَاسَةَ. يُرِيدُ بِالْبَصِيرَةِ فِي الْكَشْفِ وَالْعِيَانِ أَنْ تَتَفَجَّرَ بِهَا يَنَابِيعُ الْمَعَارِفِ مِنَ الْقَلْبِ، وَلَمْ يَقُلْ: " تُفَجِّرُ الْعِلْمَ " لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ عِنْدَ الْقَوْمِ، وَنِسْبَتُهَا إِلَى الْعِلْمِ نِسْبَةُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ، فَهِيَ رُوحُ الْعِلْمِ وَلُبُّهُ. وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ بِهَذِهِ الْبَصِيرَةِ تَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِ صَاحِبِهَا يَنَابِيعُ مِنَ الْمَعَارِفِ، الَّتِي لَا تُنَالُ بِكَسْبٍ وَلَا دِرَاسَةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا فَهْمٌ يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ وَدِينِهِ، عَلَى قَدْرِ بَصِيرَةِ قَلْبِهِ. وَقَوْلُهُ " وَتُثَبِّتُ الْإِشَارَةَ ". يُرِيدُ بِالْإِشَارَةِ: مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمُنَازَلَاتِ، وَالْأَذْوَاقِ الَّتِي يُنْكِرُهَا الْأَجْنَبِيُّ مِنَ السُّلُوكِ، وَيُثْبِتُهَا أَهْلُ الْبَصَائِرِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ تَرِدُ عَلَى السَّالِكِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بَصِيرَةٌ ثَبَتَتْ بَصِيرَتُهُ ذَلِكَ لَهُ وَحَقَّقَتْهُ عِنْدَهُ، وَعَرَّفَتْهُ تَفَاصِيلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَصِيرَةٌ بَلْ كَانَ جَاهِلًا، لَمْ يَعْرِفْ تَفْصِيلَ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَهْتَدِ لِتَثْبِيتِهِ. قَوْلُهُ: " وَتُنْبِتُ الْفِرَاسَةَ مَعْنَاهَا ". يَعْنِي أَنَّ الْبَصِيرَةَ تُنْبِتُ فِي أَرْضِ الْقَلْبِ الْفِرَاسَةَ الصَّادِقَةَ، وَهِيَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ، يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] قَالَ مُجَاهِدٌ: لِلْمُتَفَرِّسِينَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] » . وَالتَّوَسُّمُ مَعْنَاهُ تَفَعُّلٌ مِنَ السِّيمَا، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، فَسُمِّيَ الْمُتَفَرِّسُ مُتَوَسِّمًا، لِأَنَّهُ يَسْتَدِلُّ بِمَا يَشْهَدُ عَلَى مَا غَابَ، فَيَسْتَدِلُّ بِالْعِيَانِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يُشَاهِدُونَ مِنْهَا عَلَى حَقِيقَةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَقَدْ أَلْهَمَ اللَّهُ ذَلِكَ لِآدَمَ، وَعَلَّمَهُ إِيَّاهُ حِينَ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَبَنُوهُ هُمْ نُسْخَتُهُ وَخُلَفَاؤُهُ، فَكُلُّ قَلْبٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِذَلِكَ، وَهُوَ فِيهِ بِالْقُوَّةِ، وَبِهِ تَقُومُ الْحُجَّةُ، وَتَحْصُلُ الْعِبْرَةُ، وَتَصِحُّ الدِّلَالَةُ، وَبَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ مُذَكِّرِينَ وَمُنَبِّهِينَ، وَمُكَمِّلِينَ لِهَذَا الِاسْتِعْدَادِ، بِنُورِ الْوَحْيِ وَالْإِيمَانِ، فَيَنْضَافُ ذَلِكَ إِلَى نُورِ الْفِرَاسَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، فَيَصِيرُ نُورًا عَلَى نُورٍ، فَتَقْوَى الْبَصِيرَةُ، وَيَعْظُمُ النُّورُ وَيَدُومُ، بِزِيَادَةِ مَادَّتِهِ وَدَوَامِهَا، وَلَا يَزَالُ فِي تَزَايُدٍ حَتَّى يُرَى عَلَى الْوَجْهِ وَالْجَوَارِحِ، وَالْكَلَامِ وَالْأَعْمَالِ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ وَلَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا دَخَلَ قَلْبُهُ فِي الْغُلَافِ وَالْأَكِنَّةِ، فَأَظْلَمَ، وَعَمِيَ عَنِ الْبَصِيرَةِ، فَحُجِبَتْ عَنْهُ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ، فَيَرَى الْحَقَّ بَاطِلًا، وَالْبَاطِلَ حَقًّا، وَالرُّشْدَ غَيًّا،وَالْغَيَّ رُشْدًا، قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] " وَالرَّيْنُ " " وَالرَّانُّ " هُوَ الْحِجَابُ الْكَثِيفُ الْمَانِعُ لِلْقَلْبِ مِنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ. وَعَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الْبَصِيرَةِ وَضَعْفِهَا تَكُونُ الْفِرَاسَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ: فِرَاسَةٌ عُلْوِيَّةٌ شَرِيفَةٌ، مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ. وَفِرَاسَةٌ سُفْلِيَّةٌ دَنِيئَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَهِيَ فِرَاسَةُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالْخُلْوَةِ، وَتَجْرِيدِ الْبَوَاطِنِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّوَاغِلِ، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ فِرَاسَةُ كَشْفِ الصُّوَرِ، وَالْإِخْبَارِ بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ السُّفْلِيَّةِ الَّتِي لَا يَتَضَمَّنُ كَشْفُهَا وَالْإِخْبَارُ بِهَا كَمَالًا لِلنَّفْسِ، وَلَا زَكَاةً وَلَا إِيمَانًا وَلَا مَعْرِفَةً، وَهَؤُلَاءِ لَا تَتَعَدَّى فِرَاسَتُهُمْ هَذِهِ الْسُفْلِيَّاتِ، لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنِ الْحَقِّ تَعَالَى، فَلَا تَصْعَدُ فِرَاسَتُهُمْ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَطَرِيقِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ. وَأَمَّا فِرَاسَةُ الصَّادِقِينَ، الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ فَإِنَّ هِمَّتَهُمْ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، كَانَتْ فِرَاسَتُهُمْ مُتَّصِلَةً بِاللَّهِ، مُتَعَلِّقَةً بِنُورِ الْوَحْيِ مَعَ نُورِ الْإِيمَانِ، فَمَيَّزَتْ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَمَيَّزَتْ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ، وَالْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، وَعَرَفَتْ مَقَادِيرَ اسْتِعْدَادِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ، فَحَمَلَتْ كُلَّ إِنْسَانٍ عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ، عِلْمًا وَإِرَادَةً وَعَمَلًا. فَفِرَاسَةُ هَؤُلَاءِ دَائِمًا حَائِمَةٌ حَوْلَ كَشْفِ طَرِيقِ الرَّسُولِ وَتَعَرُّفِهَا، وَتَخْلِيصِهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الطُّرُقِ، وَبَيْنَ كَشْفِ عُيُوبِ النَّفْسِ، وَآفَاتِ الْأَعْمَالِ الْعَائِقَةِ عَنْ سُلُوكِ طَرِيقِ الْمُرْسَلِينَ، فَهَذَا أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْبَصِيرَةِ وَالْفِرَاسَةِ، وَأَنْفَعُهَا لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ. |
الساعة الآن 11:54 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir